عاد محمد أبو زريعة من حقل البطاطا، حيث يعمل في مزرعة (ميرون).
كانت الشمس قد غطست خلف مخيم (قلنديا). شمال القدس مثل كرة ملتهبة انطفأت بالماء.
وفي حارات المخيم وأزقته انتشرت الحجارة مثلما تنتشر النجوم في السماء..
كان أبو زريعة يحمل كيساً من البطاطا على كتفه، ويتجه صوب بيته. حلقه صحراء، ورجلاه قطعتا حديد، أوقفه أحد الجنود، وطلب منه أن يفتح الكيس... قال أبو زريعة بلهجة ساخرة:
-هذه بطاطا وليست حجارة!.
حين وضع أبو زريعة كيس البطاطا في صحن الدار.
خرجت زوجته من الغرفة الوحيدة التي ينامان فيها مع أربعة أطفال، ناتفة خصلات شعرها وهي تصيح:
-حسين يا محمد.. حسين!.
-ماله ابني حسين؟!..
-دخل الجنود الدار وأخذوه!.
جلس محمد أبو زريعة على كيس البطاطا مهدوداً. وعصر رأسه بيديه المتربتين...
لم ينم تلك الليلة...
ظلَّت عيناه تحدقان في سقف (الزينكو)، ومثل لمعة برق عادت إليه جملته التي قالها ساخراً للجندي: -هذه بطاطا وليست حجارة!.
ثم قال لنفسه:
-سأترك العمل عند (ميرون)، وأعود إلى مهنتي السابقة، النجارة،
وعاد حنينه إلى المسامير، يضربها بشاكوشه. بقوة. بقوة أكثر. رأس المسمار ينغرس أيضاً في البطاطا. كما ينغرس في الخشب... آه.. نعم..
في البطاطا. مسامير في البطاطا، أوجع من الحجارة.. نهض صباحاً.. ابتسم في وجه زوجته.. استغربت عدم اهتمامه بما حدث لابنه...
قال لها وكأنه يقرأ أفكارها:
-ابنك حسين واحد من آلاف الشباب في السجن.. لكل واحد منهم أب وأم وأخوة، نحن مثلهم..
ثم أشار إلى كيس البطاطا:
-لا تطبخي لنا بطاطا هذا اليوم!.. خبئي هذا الكيس تحت السرير. لن نطبخ بطاطا بعد اليوم!..
حين تكدست أكياس البطاطا حول السرير، ووصلت حتى السقف، اشترى محمد أبو زريعة كيساً من المسامير الحادة الرؤوس، وبدأ العمل عند آذان العشاء.. عند الفجر، كانت أكياس البطاطا مكدسة أمام بيت محمد أبو زريعة، الذي أخذ يصرخ بحاملي الحجارة:
-خذوا يا أخوان.. هذه حجارة جديدة.. هذه حجارة محمد أبو زريعة، جربوها، ولن تندموا... لن تندموا أبداً!.
هذه المرة..
لم تكن الشمس قد غطست مطفأة بالماء، بل مرَّت. إلى جانبها سحابة بيضاء شفافة مثل كيس من النايلون. فتشكلت مع أشعتها حبة بطاطا نبتت لها رؤوس حادة.