رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  13014305951
رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  13014305951
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالتسجيلأحدث الصوردخول

 

 رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور

اذهب الى الأسفل 
5 مشترك
انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:13 pm

[center]بسم الله الرحمن الرحيم

الاخوة الافاضل

زوار القسم الاسلامى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Logo

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Home


احببت ان اضع بين ايديكم نبذة عن
رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا
صدق الله العظيم
وبداية
يوجد رابط لتجميل كتاب عن وصف شامل لهذه الكوكبة العظيمة

[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
فاتمنى الاستفادة من تحميله
^^^^^^^^^^^^^^
رجال حول الرسول
رجال لا كالرجال , مصابيح الهدى و مشاعل تنير لنا عتمة طريقنا في هذه الحياة , نجوم ضوءها يملأ فضاءات الكون الفسيح

كانوا رجالا حول الرسول بهم ارتفعت رايات الحق و سطروا لمن بعدهم اروع الامثلة في الاخلاص و العمل و العزم و القوة في الحق , باعوا انفسهم لله فربحوا البيع فكان حقا على من بعدهم ان يهتدي بهديهم و يسير على اثرهم و يتتبع خطاهم
صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و رضي عن اصحابه لكل منهم تجليات يجب ان نسلط الضوء عليها و اضاءات يجب ان نستنير بها
و بعد هذه المقدمة الوجيزة اترككم مع هذه الشذرات لتقطفوا من غناء حدائق فضائلهم بعض الزهرات و اسألكم الدعاء لمن كتب و نقل و اخرج و كل من له يد في هذا العمل



مصعب بن عمير - أول سفراء الاسلام
هذا رجل من أصحاب محمد ما أجمل أن نبدأ به الحديث.
غرّة فتيان قريش، وأوفاهم جمالا، وشبابا..
يصف المؤرخون والرواة شبابه فيقولون:" كان أعطر أهل مكة"..
ولد في النعمة، وغذيّ بها، وشبّ تحت خمائلها.
ولعله لم يكن بين فتيان مكة من ظفر بتدليل أبويه بمثل ما ظفر به "مصعب بن عمير"..
ذلك الفتر الريّان، المدلل المنعّم، حديث حسان مكة، و لؤلؤة ندواتها و مجالسها، أيمكن أن يتحوّل الى أسطورة من أساطير الايمان و الفداء..؟
بالله ما أروعه من نبأ.. نبأ "مصعب بن عمير"، أو "مصعب الخير" كما كان لقبه بين المسلمين.
انه واحد من أولئك الذين صاغهم الاسلام وربّاهم "محمد" عليه الصلاة والسلام..
ولكن أي واحد كان..؟
ان قصة حياته لشرف لبني الانسان جميعا..
لقد سمع الفتى ذات يوم، ما بدأ أهل مكة يسمعونه من محمد الأمين صلى الله عليه وسلم..
"محمد" الذي يقول أن الله أرسله بشيرا ونذيرا. وداعيا الى عبادة الله الواحد الأحد.
وحين كانت مكة تمسي وتصبح ولا همّ لها، ولا حديث يشغلها الا الرسول عليه الصلاة والسلام ودينه، كان فتى قريش المدلل أكثر الناس استماعا لهذا الحديث.
ذلك أنه كان على الرغم من حداثة سنه، زينة المجالس والندوات، تحرص كل ندوة أن يكون مصعب بين شهودها، ذلك أن أناقة مظهره ورجاحة عقله كانتا من خصال "ابن عمير التي تفتح له القلوب والأبواب..
ولقد سمع فيما سمع أن الرسول ومن آمن معه، يجتمعون بعيدا عن فضول قريش وأذاها.. هناك على الصفا في درا "الأرقم بن أبي الأرقم" فلم يطل به التردد، ولا التلبث والانتظار، بل صحب نفسه ذات مساء الى دار الأرقم تسبقه أشواقه ورؤاه...
هناك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بأصحابه فيتلو عليهم القرآن، ويصلي معهم لله العليّ القدير.
ولم يكد مصعب يأخذ مكانه، وتنساب الآيات من قلب الرسول متألفة على شفتيه، ثم آخذة طريقها الى الأسماع والأفئدة، حتى كان فؤاد ابن عمير في تلك الأمسية هو الفؤاد الموعود..!
ولقد كادت الغبطة تخلعه من مكانه، وكأنه من الفرحة الغامرة يطير.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يمينه الحانية حتى لامست الصدر المتوهج، والفؤاد المتوثب، فكانت السكينة العميقة عمق المحيط.. وفي لمح البصر كان الفتى الذي آمن وأسلم يبدو ومعه من الحكمة ما بفوق ضعف سنّه وعمره، ومعه من التصميم ما يغيّر سير الزمان..!!!
**
كانت أم مصعب "خنّاس بنت مالك" تتمتع بقوة فذة في شخصيتها، وكانت تهاب الى حد الرهبة..
ولم يكن مصعب حين أسلم ليحاذر أو يخاف على ظهر الأرض قوة سوى امه.
فلو أن مكة بل أصنامها وأشرافها وصحرائها، استحالت هولا يقارعه ويصارعه، لاستخف به مصعب الى حين..
أما خصومة أمه، فهذا هو الهول الذي لا يطاق..!
ولقد فكر سريعا، وقرر أن يكتم اسلامه حتى يقضي الله أمرا.
وظل يتردد على دار الأرقم، ويجلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قرير العين بايمانه، وبتفاديه غضب أمه التي لا تعلم خبر اسلامه خبرا..
ولكن مكة في تلك الأيام بالذات، لا يخفى فيها سر، فعيون قريش وآذانها على كل طريق، ووراء كل بصمة قدم فوق رمالها الناعمة اللاهبة، الواشية..
ولقد أبصر به "عثمان بن طلحة" وهو يدخل خفية الى دار الأرقم.. ثم رآه مرة أخرى وهو سصلي كصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، فسابق ريح الصحراء وزوابعها، شاخصا الى أم مصعب، حيث ألقى عليها النبأ الذي طار بصوابها...
ووقف مصعب أمام أمه، وعشيرته، وأشراف مكة مجتمعين حوله يتلو عليهم في يقين الحق وثباته، القرآن الذي يغسل به الرسول قلوبهم، ويملؤها به حكمة وشرفا، وعدلا وتقى.
وهمّت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت كالسهم، ما لبثت أم استرخت وتنحّت أمام النور الذي زاد وسامة وجهه وبهاءه جلالا يفرض الاحترام، وهدوءا يفرض الاقناع..
ولكن، اذا كانت أمه تحت ضغط أمومتها ستعفيه من الضرب والأذى، فان في مقدرتها أ، تثأر للآلهة التي هجرها بأسلوب آخر..
وهكذا مضت به الى ركن قصي من أركان دارها، وحبسته فيه، وأحكمت عليه اغلاقه، وظل رهين محبسه ذاك، حتى خرج بعض المؤمنين مهاجرين الى أرض الحبشة، فاحتال لنفسه حين سمع النبأ، وغافل أمه وحراسه، ومضى الى الحبشة مهاجرا أوّابا..
ولسوف يمكث بالحبشة مع اخوانه المهاجرين، ثم يعود معهم الى مكة، ثم يهاجر الى الحبشة للمرة الثانية مع الأصحاب الذين يأمرهم الرسول بالهجرة فيطيعون.
ولكن سواء كان مصعب بالحبشة أم في مكة، فان تجربة ايمانه تمارس تفوّقها في كل مكان وزمان، ولقد فرغ من اعداة صياغة حياته على النسق الجديد الذي أعطاهم محمد نموذجه المختار، واطمأن مصعب الى أن حياته قد صارت جديرة بأن تقدّم قربانا لبارئها الأعلى، وخالقها العظيم..
خرج يوما على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله، فما ان بصروا به حتى حنوا رؤوسهم وغضوا أبصارهم وذرفت بعض عيونهم دمعا شجيّا..
ذلك أنهم رأوه.. يرتدي جلبابا مرقعا باليا، وعاودتهم صورته الأولى قبل اسلامه، حين كانت ثيابه كزهور الحديقة النضرة، وألقا وعطرا..
وتملى رسول الله مشهده بنظرات حكيمة، شاكرة محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامته الجليلة، وقال:
" لقد رأيت مصعبا هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حبا لله ورسوله".!!
لقد منعته أمه حين يئست من ردّته كل ما كانت تفيض عليه من نعمة.. وأبت أن يأكل طعامها انسان هجر الآلهة وحاقت به لعنتها، حتى ولو يكون هذا الانسان ابنها..!!
ولقد كان آخر عهدها به حين حاولت حبسه مرّة أخرى بعد رجوعه من الحبشة. فآلى على نفسه لئن هي فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه..
وانها لتعلم صدق عزمه اذا همّ وعزم، فودعته باكية، وودعها باكيا..
وكشفت لحظة الوداع عن اصرار عجيب على الكفر من جانب الأم واصرار أكبر على الايمان من جانب الابن.. فحين قالت له وهي تخرجهمن بيتها: اذهب لشأنك، لم أعد لك أمّا. اقترب منها وقال:"يا أمّه اني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا اله الا الله، وأن محمدا عبده ورسوله"...
أجابته غاضبة مهتاجة:" قسما بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف غقلي"..!!
وخرج مصعب من العنمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرا الشظف والفاقة.. وأصبح الفتى المتأنق المعطّر، لا يرى الا مرتديا أخشن الثياب، يأكل يوما، ويجوع أياماو ولكن روحه المتأنقة بسمو العقيدة، والمتألقة بنور الله، كانت قد جعلت منه انسانا آخر يملأ الأعين جلال والأنفس روعة...
**
وآنئذ، اختاره الرسول لأعظم مهمة في حينها: أن يكون سفيره الى المدينة، يفقّه الأنصار الذين آمنوا وبايعوا الرسول عند العقبة، ويدخل غيرهم في دين الله، ويعدّ المدينة ليوم الهجرة العظيم..
كان في أصحاب رسول الله يومئذ من هم أكبر منه سنّا وأكثر جاها، وأقرب من الرسول قرابة.. ولكن الرسول اختار مصعب الخير، وهو يعلم أنه يكل اليه بأخطر قضايا الساعة، ويلقي بين يديه مصير الاسلام في المدينة التي ستكون دار الهجرة، ومنطلق الدعوة والدعاة، والمبشرين والغزاة، بعد حين من الزمان قريب..
وحمل مصعب الأمانة مستعينا بما أنعم الله عليه من رجاحة العقل وكريم الخلق، ولقد غزا أفئدة المدينة وأهلها بزهده وترفعه واخلاصه، فدخلوا في دين الله أفواجا..
لقد جاءها يوم بعثه الرسول اليها وليس فيها سوى اثني عشر مسلما هم الذين بايعوا النبي من قبل بيعة العقبة، ولكنه ام يكد يتم بينهم بضعة أشهر حتى استجابوا لله وللرسول..!!
وفي موسم الحج التالي لبيعة العقبة، كان مسلمو المدينة يرسلون الى مكة للقاء الرسول وفدا يمثلهم وينوب عنهم.. وكان عدد أعضائه سبعين مؤمنا ومؤمنة.. جاءوا تحت قيادة معلمهم ومبعوث نبيهم اليهم "مصعب ابن عمير".
لقد أثبت "مصعب" بكياسته وحسن بلائه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف كيف يختار..
فلقد فهم مصعب رسالته تماما ووقف عند حدودها.ز عرف أنه داعية الى الله تعالى، ومبشر بدينه الذي يدعوا الناس الى الهدى، والى صراط مستقيم. وأنه كرسوله الذي آمن به، ليس عليه الا البلاغ..
هناك نهض في ضيافة "أسعد بم زرارة" يفشيان معا القبائل والبويت والمجالس، تاليا على الناس ما كان معه من كتاب ربه، هاتفا بينهم في رفق عظيم بكلمة الله (انما الله اله واحد)..
ولقد تعرّض لبعض المواقف التي كان يمكن أن تودي به وبمن معه، لولا فطنة عقله، وعظمة روحه..
ذات يوم فاجأه وهو يعظ الانس "أسيد بن خضير" سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، فاجأه شاهرا حربتهو يتوهج غضبا وحنقا على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم.. ويدعوهم لهجر آلهتهم، ويحدثهم عن اله واحد لم يعرفوه من قبل، ولم يألفوه من قبل..!
ان آلهتهم معهم رابضة في مجاثمهاو اذا حتاجها أحد عرف مكانها وولى وجهه ساعيا اليها، فتكشف ضرّه وتلبي دعاءه... هكذا يتصورون ويتوهمون..
أما اله محمد الذي يدعوهم اليه باسمه هذا السفير الوافد اليهم، فما أحد يعرف مكانه، ولا أحد يستطيع أن يراه..!!
وما ان رأى المسلمون الذين كانوا يجالسون مصعبا مقدم أسيد ابن حضير متوشحا غضبه المتلظي، وثورته المتحفزة، حتى وجلوا.. ولكن مصعب الخير ظل ثابتا وديعا، متهللا..
وقف اسيد أمامه مهتاجا، وقال يخاطبه هو وأسعد بن زرارة:
"ما جاء بكما الى حيّنا، تسهفان ضعفاءنا..؟ اعتزلانا، اذا كنتما لا تريدان الخروج من الحياة"..!!
وفي مثل هدوء البحر وقوته..
وفي مثل تهلل ضوء الفجر ووداعته.. انفرجت أسارير مصعب الخير وتحرّك بالحديث الطيب لسانه فقال:
"أولا تجلس فتستمع..؟! فان رضيت أمرنا قبلته.. وان كرهته كففنا عنك ما تكره".
الله أكبر. ما أروعها من بداية سيسعد بها الختام..!!
كان أسيد رجلا أريبا عاقلا.. وها هو ذا يرى مصعبا يحتكم معه الى ضميره، فيدعوه أن يسمع لا غير.. فان اقتنع، تركه لاقتناعهو وان لم يقتنع ترك مصعب حيّهم وعشيرتهم، وتحول الى حي آخر وعشيرة أخرى غير ضارّ ولا مضارّ..
هنالك أجابه أسيد قائلا: أنصفت.. وألقى حربته الى الأرض وجلس يصغي..
ولم يكد مصعب يقرأ القرآن، ويفسر الدعوة التي جاء بها محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، حتى أخذت أسارير أسيد تبرق وتشرق.. وتتغير مع مواقع الكلم، وتكتسي بجماله..!!
ولم يكد مصعب يفرغ من حديثه حتى هتف به أسيد بن حضير وبمن معه قائلا:
"ما أحسن هذا القول وأصدقه.. كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين"..؟؟
وأجابوه بتهليلة رجّت الأرض رجّا، ثم قال له مصعب:
"يطهر ثوبه وبدنه، ويشهد أن لا اله الا الله".
فعاب أسيد عنهم غير قليل ثم عاد يقطر الماء الطهور من شعر رأسه، ووقف يعلن أن لا اله الا الله، وأن محمدا رسول الله..
وسرى الخبر كالضوء.. وجاء سعد بن معاذ فأصغى لمصعب واقتنع، وأسلم ثم تلاه سعد بن عبادة، وتمت باسلامهم النعمة، وأقبل أهل المدينة بعضهم على بعض يتساءلون: اذا كان أسيد بن حضير، وسعد ابن معاذ، وسعد بن عبادة قد أسلموا، ففيم تخلفنا..؟ هيا الى مصعب، فلنؤمن معه، فانهم يتحدثون أن الحق يخرج من بين ثناياه..!!
**
لقد نجح أول سفراء الرسول صلى الله عليه وسلم نجاحا منقطع النظير.. نجاه\حا هو له أهل، وبه جدير..
وتمضي الأيام والأعوام، ويهاجر الرسول وصحبه الى المدينة، وتتلمظ قريش بأحقادها.. وتعدّ عدّة باطلها، لتواصل مطاردتها الظالمة لعباد الله الصالحين.. وتقوم غزوة بدر، قيتلقون فيها درسا يفقدهم بقية صوابهم ويسعون الى الثأر،و تجيء غزوة أحد.. ويعبئ المسلمون أنفسهم، ويقف الرسول صلى الله عليه وسلم وسط صفوفهم يتفرّس الوجوه المؤمنة ليختار من بينها من يحمل الراية.. ويدعو مصعب الخير، فيتقدم ويحمل اللواء..
وتشب المعركة الرهيبة، ويحتدم القتال، ويخالف الرماة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ويغادرون موقعهم في أعلى الجبل بعد أن رأوا المشركين ينسحبون منهزمين، لكن عملهم هذا، سرعان ما يحوّل نصر المسلمين الى هزيمة.. ويفاجأ المسلمون بفرسان قريش تغشاهم من أعلى الجبل، وتعمل فيهم على حين غرّة، السيوف الظامئة المجنونة..
حين رأوا الفوضى والذعر في صفوف المسلمين، ركزا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينالوه..
وأدرك مصعب بن عمير الخطر الغادر، فرفع اللواء عاليا، وأطلق تكبيرة كالزئير، ومضى يجول ويتواثب.. وكل همه أن يلفت نظر الأعداء اليه ويشغلهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، وجرّد من ذاته جيشا بأسره.. أجل، ذهب مصعب يقاتل وحده كأنه جيش لجب غزير..
يد تحمل الراية في تقديس..
ويد تضرب بالسيف في عنفزان..
ولكن الأعداء يتكاثرون عليه، يريدون أن يعبروا فوق جثته الى حيث يلقون الرسول..
لندع شاهد عيان يصف لنا مشهد الخاتم في حياة مصعب العظيم..!!
يقول ابن سعد: أخبرنا ابراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري، عن أبيه قال:
[حمل مصعب بن عمير اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمون ثبت به مصعب، فأقبل ابن قميئة وهو فارس، فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
وأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه الى صدره وهو يقول: وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل..
ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه وأندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء].
وقع مصعب.. وسقط اللواء..!!
وقع حلية الشهادة، وكوكب الشهداء..!!
وقع بعد أن خاض في استبسال عظيم معركة الفداء والايمان..
كان يظن أنه اذا سقط، فسيصبح طريق القتلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم خاليا من المدافعين والحماة..
ولكنه كان يعزي نفسه في رسول الله عليه الصلاة والسلام من فرط حبه له وخوفه عليه حين مضى يقول مع كل ضربة سيف تقتلع منه ذراعا:
(وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل)
هذه الآية التي سينزل الوحي فيما بعد يرددها، ويكملها، ويجعلها، قرآنا يتلى..
**
وبعد انتهاء المعركة المريرة، وجد جثمان الشهيد الرشيد راقدا، وقد أخفى وجهه في تراب الأرض المضمخ بدمائه الزكية..
لكأنما خاف أن يبصر وهو جثة هامدة رسول الله يصيبه السوء، فأخفى وجهه حتى لا يرى هذا الذي يحاذره ويخشاه..!!
أو لكأنه خجلان اذ سقط شهيدا قبلأن يطمئن على نجاة رسول الله، وقبل أن يؤدي الى النهاية واجب حمايته والدفاع عنه..!!
لك الله يا مصعب.. يا من ذكرك عطر الحياة..!!
**
وجاء الرسول وأصحابه يتفقدون أرض المعركة ويودعون شهداءها..
وعند جثمان مصعب، سالت دموع وفيّة غزيرة..
يقوا خبّاب بن الأرت:
[هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل اله، نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله.. فمنا من مضى، ولم يأكل من أجره في دنياه شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد.. فلم يوجد له شيء يكفن فيه الا نمرة.. فكنا اذا وضعناها على رأسه تعرّت رجلاه، واذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الاذخر"..]..
وعلى الرغم من الألم الحزين العميق الذي سببه رزء الرسول صلى الله عليه وسلم في عمه حمزة، وتمثيل المشركين يجثمانه تمثيلا أفاض دموع الرسول عليه السلام، وأوجع فؤاده..
وعلى الرغم م امتاتء أرض المعركة بجثث أصحابه وأصدقائه الذين كان كل واحد منهم يمثل لديه عالما من الصدق والطهر والنور..
على الرغم من كل هذا، فقد وقف على جثمان أول سفرائه، يودعه وينعاه..
أجل.. وقف الرسول صلى الله عليه وسلم عند مصعب بن عمير وقال وعيناه تلفانه بضيائهما وحنانهما ووفائهما:
(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)
ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي مفن بها وقاللقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمّة منك. "ثم هأنتذا شعث الرأس في بردة"..؟!
وهتف الرسول عليه الصلاة والسلام وقد وسعت نظراته الحانية أرض المعركة بكل من عليها من رفاق مصعب وقال:
"ان رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة".
ثم أقبل على أصحابه الأحياء حوله وقال:
"أيها الناس زوروهم،وأتوهم، وسلموا عليهم، فوالذي نفسي بيده، لا يسلم عليهم مسلم الى يوم القيامة، الا ردوا عليه السلام"..
**

بلال بن رباح - الساخر من الأهوال

كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال:
" أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا"..
يعني بلالا رضي الله عنه..
وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ..
لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه، وتغدق عليه، الا ويحني رأسه ويغض طرفه، ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل:
"انما أنا حبشي.. كنت بالأمس عبدا"..!!
فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا..!!
[b]انه "بلال بن رباح" مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام..
انه احدى معجزات الايمان والصدق.

احدى معجزات الاسلام العظيم..
في كل عشرة مسلمين. منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا..
أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر...!!
وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أ، باكستان، أ، الصين..
وفي الأمريكيتين، وأوروبا وروسيا..
وفي تاعراق ، وسوريا، وايران والسودان..
في تونس والمغرب والجزائر..
في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا..
في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم: من بلال يا غلام؟
فيجيبك: انه مؤذن الرسول.. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول:
"أحد.. أحد.."

وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان..
لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء...
ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي..!!
بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال..
ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه..

ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها..
فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة.. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته..
كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا..
ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول..!!
أجل.. بلال بن رباح!
أيّة بطولة.. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح..؟!
**

انه حبشي من أمة السود... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم..
كان يعيش عيشة الرقيق، تمضي أيامه متشابهة قاحلة، لا حق له في يومه، ولا أمل له في غده..!!
ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما "أمية بن خلف" أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها..
لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا..

وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد.. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها.. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته..!!
أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد..!!
ويقول بعضهم لبعض: ما كان محمد يوما كاذبا. ولا ساحرا..ولا مجنونا.. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه..!!
سمعهم يتحدّثون عن أمانته..
عن وفائه..
عن رجولته وخلقه..
عن نزاهته ورجاحة عقله..
وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي: ولاؤهم لدين آبائهم أولا. والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول...!
**

وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم..
ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور..!! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار..
عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد..؟!
ويقول أميّة لنفسه: ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق..!!
ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها...!
**

أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا..
لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام.
ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها..
لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين.. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا..
لقد وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى..

لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته..
لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره..
ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره..

ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه..
حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها..!
نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد:"أحد أحد"
يقولون له: قل كما نقول..
فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية:
"ان لساني لا يحسنه"..!!
ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها. وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس:" أحد أحد".

وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه:
غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون!
فيهز رأسه ويقول:" أحد.. أحد..".
ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح: أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء..؟واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا.
ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس:
"أحد.. أحد.."
ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول:
خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها..
ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا:
"أحد.. أحد.."
وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت.
ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم:
(أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله)؟؟
ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا..
وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة..

لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته..
باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار...

وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية:
خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها..
وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه..
ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا،أجاب أمية قائلا:
والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها..!!

وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره.. وكان عيدا عظيما!
وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها..
فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته..؟
انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن: "الله أحد..أحد".
لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام.
وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى:
الله أكبر.. الله أكبر
الله أكبر .. الله أكبر
أشهد أن لااله الا الله
أشهد أن لا اله الا الله
أشهد أن محمدا رسول الله
أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة
حي على الصلاة
حي على الفلاح
حي على الفلاح
الله أكبر.. الله أكبر
لااله الا الله...

ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا..
وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية..وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر.. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: "أحد..أحد".
**

في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم..!!
ولقد همّ بالنكوص عن الخروج "أمية بن خلف" .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة..

همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه "عقبة بن أبي معيط" حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له: يا أبا علي، استجمر بهبذ، فانما أنت من النساء..!!!
وصاح به أمية قائلا: قبحك الله، وقبّح ما جئت به..
ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج..
أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها..؟
لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين..
[font=Times New Roman][size=21][color=navy]واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة ب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:17 pm

صهيب بن سنان - ربح البيع يا أبا يحيى !!

ولد في أحضان النعيم..

فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..
وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..
ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.
ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيء له فرصة الاتجار معه.
وذات يوم.. ولندع صديقع عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

" لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..
فقلت له: ماذا تريد..؟
فأجابني وما تريد أنت..؟
قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.
قال: وأنا اريد ذلك..
فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.
ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..
ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!

عرف صهيب طريقع اذن الى دار الأرقم..
عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..
فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!
عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..
وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..
واقتحام تلك العتبة، كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!
وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.

وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟
انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..
وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..
وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وافلاسه..
وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...
أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!
ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الاسلام فيقول:
" لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..
ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..
ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..
ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أ، شماله..
وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..
ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..
وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!
هذه صورة باهرة، لايمان فذ وولاء عظيم..
ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين، أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يكين الرسول..
يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.
ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..

ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.
فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..
بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..
وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..
بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوهخ.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:
" يا معشر قريش..
لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..
وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..

ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:
أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟
فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..

والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!
واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..

كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهلاا:
" ربح البيع أبا يحيى..!!
ربح البيع أبا يحيى..!!
وآنئذ نزلت الآية الكريمة:
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)..

أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..
فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، اذا بقي له ايمانه، واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟
كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..
رآه الرسول يأكل رطبا، وكان باحدى عينيه رمد..
فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!
وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟
فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:
" خياركم من أطعم الطعام".
**

ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..
فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
وعندما احس نهاية الأجل، فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:
" وليصلّ بالناس صهيب"..
لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..

وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟
ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..
ولقد اختار عمر صهيبا..
اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..
اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان..
*********************

سعيد بن عامر - العظمة تحت الاسمال

أيّنا سمع هذا الاسم، وأيّنا سمع به من قبل..؟
أغلب الظن أن أكثنا، ان لم نكن جميعا، لم نسمع به قط.. وكأني بكم اذ تطالعونه الآن تتساءلون: ومن يكون عامر هذا..؟؟
أجل سنعلم من هذا السعيد..!!
انه واحد من كبار الصحابة رضي الله عنهم، وان لم يكن لاسمه ذلك الرنين المألوف لأسماء كبار الصحابة.

انه واحد من كبار الأتقياء الأخفياء..!!
ولعل من نافلة القول وتكراره، أن ننوه بملازمته رسول الله في جميع مشاهده وغزواته.. فذلك كان نهج المسلمين جميعا. وما كان لمؤمن أن يتخلف عن رسول الله في سلم أو جهاد.
أسلم سعيد قبيل فتح خيبر، ومنذ عانق الاسلام وبايع الرسول، أعطاهما كل حياته، ووجوده ومصيره.
فالطاعة، والزهد، والسمو.. والاخبات، والورع، والترفع.
كل الفضائل العظيمة وجدت في هذا الانسان الطيب الطاهر أخا وصديقا كبيرا..
وحين نسعى للقاء عظمته ورؤيتها، علينا أن نكون من الفطنة بحيث لا نخدع عن هذه العظمة وندعها تفلت منا وتتنكر..
فحين تقع العين على سعيد في الزحام، لن ترى شيئا يدعوها للتلبث والتأمل..
ستجد العين واحدا من أفراد الكتيبة الانمية.. أشعث أغبر. . ليس في ملبسه، ولا في شكله الاخرجي، ما يميزه عن فقراء المسلمين بشيء.!!
فاذا جعلنا من ملبسه ومن شكله الخارجي دليلا على حقيقته، فلن نبصر شيئا، فان عظمة هذا الرجل أكثر أصالة من أن تتبدى في أيّ من مظاهر البذخ والزخرف.
انها هناك كامنة مخبوءة وراء بساطته وأسماله.
أتعرفون اللؤلؤ المخبوء في جوف الصدف..؟ انه شيء يشبه هذا..
**

عندما عزل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب معاوية عن ولاية الشام، تلفت حواليه يبحث عن بديل يوليه مكانه.
وأسلوب عمر في اختيار ولاته ومعاونيه، أسلوب يجمع أقصى غايات الحذر، والدقة، والأناة.. ذلك أنه كان يؤمن أن أي خطأ يرتكبه وال في أقصى الأرض سيسأل عنه الله اثنين: عمر أولا.. وصاحب الخطأ ثانيا..
ومعاييره في تقييم الناس واختيار الولاة مرهفة، ومحيطة،وبصيرة، أكثر ما يكون البصر حدة ونفاذا..
والشام يومئذ حاضرة كبيرة، والحياة فيها قبل دخول الاسلام بقرون، تتقلب بين حضارات متساوقة.. وهي مركز هام لتجارة. ومرتع رحيب للنعمة.. وهي بهذا، ولهذا درء اغراء. ولا يصلح لها في رأي عمر الا قديس تفر كل شياطين الاغراء أمام عزوفه.. والا زاهد، عابد، قانت، أواب..
وصاح عمر: قد وجدته، اليّ بسعيد بن عامر..!!
وفيما بعد يجيء سعيد الى أمير المؤمنين ويعرض عليه ولاية حمص..
ولكن سعيجا يعتذر ويقول: " لا تفتنّي يا أمير المؤمنين"..
فيصيح به عمر:
" والله لا أدعك.. أتضعون أمانتكم وخلافتكم في عنقي.. ثم تتركوني"..؟؟!!

واقتنع سعيد في لحظة، فقد كانت كلمات عمر حريّة بهذا الاقناع.
أجل. ليس من العدل أن يقلدوه أمانتهم وخلافتهم، ثم ينركوه وحيدا..واذا انفض عن مسؤولية الحكم أمثال سعيد بن عامر، فأنّى لعمر من يعينه على تبعات الحكم الثقال..؟؟
خرج سعيد الى حمص ومعه زوجته، وكانا عروسين جديدين، وكانت عروسه منذ طفولتها فائقة الجمال والنضرة.. وزوّده عمر بقدر طيّب من المال.
ولما استقرّا في حمص أرادت زوجته أن تستعمل حقها كزوجة في استثمار المال الذي زوده به عمر.. وأشارت هليه بأن يشتري ما يلزمهما من لباس لائق، ومتاع وأثاث.. ثم يدخر الباقي..
وقال لها سعيد: ألا أدلك على خير من هذا..؟؟ نحن في بلاد تجارتها رابحة، وسوقها رائجة، فلنعط المال م يتجر لنا فيه وينمّيه..
قالت: وان خسرت تجارته..؟
قال سعيد: سأجعل ضمانا عليه..!!
قالت: فنعم اذن..
وخرج سعيد فاشترى بعض ضروريات غعيشه المتقشف، ثم فرق جميع المال في الفقراء والمحتاجين..

ومرّت الأيام.. وبين الحين والحين تسأله زوجه عن تجارتهما وأيّان بلغت من الأرباح..
ويجيبها سعيد: انها تجارة موفقة.. وان الرباح تنمو وتزيد.
وذات يوم سألته نفس السؤال أمام قريب له كان يعرف حقيقة الأمر فابتسم. ثم ضحك ضحكة أوحت الى روع الزوجة بالشك والريب، فألحت عليه أن يصارحها الحديث، فقا لها: لقد تصدق بماله جكيعه من ذلك اليوم البعيد.
فبكت زوجة سعيد، وآسفها أنها لم تذهب من هذا المال بطائل فلا هي ابتاعت لنفسها ما تريد، والا المال بقي..
ونظر اليها سعيد وقد زادتها دموعها الوديعة الآسية جمالا وروعة.
وقبل أن ينال المشهد الفاتن من نفسه ضعفا، ألقى بصيرته نحو الجنة فرأى فيها أصحابه السابقين الراحلين فقال:
" لقد كان لي أصحاب سبقوني الى الله... وما أحب أن أنحرف عن طريقهم ولو كانت لي الدنيا بما فيها"..!!

واذ خشي أن تدل عليه بجمالها، وكأنه يوجه الحديث الى نفسه معها:
" تعلمين أن في الجنة من الحور العين والخيرات الحسان، ما لو أطلت واحدة منهن على الأرض لأضاءتها جميعا، ولقهر نورها نور الشمس والقمر معا.. فلأن أضحي بك من أجلهن، أحرى أولى من أن أضحي بهن من أجلك"..!!
وأنهى حديثه كما بدأه، هادئا مبتسما راضيا..
وسكنت زوجته، وأدركت أنه لا شيء أفضل لهما من السير في طريق سعيد، وحمل النفس على محاكاته في زهده وتقواه..!!
**

كانت حمص أيامئذ، توصف بأنها الكوفة الثانية وسبب هذا الوصف، كثرة تمرّد أهلها واختلافهم على ولاتهم.
ولما كانت الكوفة في العراق صاحبة السبق في هذا التمرد فقد أخذت حمص اسمها لما شابهتها...
وعلى الرغم من ولع الحمصيين بالتمرّد كما ذكرنا، فقد هدى الله قلوبهم لعبده الصالح سعيد، فأحبوه وأطاعوه.
ولقد سأله عمر يوما فقال: " ان أهل الشام يحبونك".؟
فأجابه سعيد قائلا:" لأني أعاونهم وأواسيهم"..!
بيد أن مهما يكن أهل حمص حب لسعيد، فلا مفر من أن يكون هناك بعض التذمر والشكوى.. على الأقل لتثبت حمص أنها لا تزال المانفس القوي لكوفة العراق...
وتقدم البعض يشكون منه، وكانت شكوى مباركة، فقد كشفت عن جانب من عظمة الرجل، عجيب عجيب جدا..
طلب عمر من الزمرة الشاكية أن تعدد نقاط شكواها، واحدة واحدة..
فنهض المتحدث بلسان هذه المجموعة وقال: نشكو منه أربعا:
" لا يخرج الينا حت يتعالى النهار..
وا يجيب أحدا بليل..
وله في الشهر يومان لا يخرج فيهما الينا ولا نراه،
وأخرى لا حيلة له فيها ولكنها تضايقنا، وهي أنه تأخذه الغشية بين الحين والحين"..
وجلس الرجل:
وأطرق عمر مليا، وابتهل الى الله همسا قال:
" اللهم اني أعرفه من خير عبادك..
اللهم لا تخيّب فيه فراستي"..
ودعاه للدفاع عن نفسه، فقال سعيد:
أما قولهم اني لا أخرج اليهم حتى يتعالى النهار..
" فوالله لقد كنت أكره ذكر السبب.. انه ليس لأهلي خادم، فأنا أعجن عجيني، ثم أدعه يختمر، ثم اخبز خبزي، ثم أتوضأ للضحى، ثم أخرج اليهم"..
وتهلل وجه عمر وقال: الحمد للله.. والثانية..؟!
وتابع سعيد حديثه:
وأما قولهم: لا أجيب أحدا بليل..
فوالله، لقد كنت أكره ذكر السبب.. اني جعلت النهار لهم،والليل لربي"..
أما قولهم: ان لي يومين في الشهر لا أخرج فيهما...
" فليس لي خادم يغسل ثوبي، وليس بي ثياب أبدّلها، فأنا أغسل ثوبي ثم أنتظر أن يجف بعد حين.. وفي آخر النهار أخرج اليهم ".
وأما قولهم: ان الغشية تأخذني بين الحين والحين..
" فقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، وحملوه على جذعه، وهم يقولون له: أحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى..؟ فيجيبهم قائلا: والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة..
فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيتهو أنا يومئذ من المشركين، ثم تذكرت تركي نصرة خبيب يومها، أرتجف خوفا من عذاب الله، ويغشاني الذي يغشاني"..
وانتهت كلمات سعيد التي كانت تغادر شفتيه مبللة بدموعه الورعة الطاهرة..
ولم يمالك عمر نفسه ونشوه، فصاح من فرط حبوره.
" الحمد للله الذي لم يخيّب فراستي".!
وعانق سعيدا، وقبّل جبهته المضيئة العالية...
**

أي حظ من الهدى ناله هذا الطراز من الخق..؟
أي معلم كان رسول الله..؟
اي نور نافذ، كان كتاب الله..؟؟
وأي مدرسة ملهمة ومعلمة، كان الاسلام..؟؟
ولكن، هل تستطيع الأرض أن تحمل فوق ظهرها عددا كثيرا من هذا الطراز..؟؟
انه لو حدث هذا، لما بقيت أرضا، انها تصير فردوسا..
أجل تصير الفردوس الموعود..
ولما كان الفردوس لم يأت زمانه بعد فان الذين يمرون بالحياة ويعبرون الأرض من هذا الطراز المجيد الجليل.. قللون دائما ونادرون..
وسعيد بن عامر واحد منهم..
كان عطاؤه وراتبه بحكم عمله ووظيفته، ولكنه كان يأخذ منه ما يكفيه وزوجه.. ثم يوزع باقيه على بيوت أخرى فقيرة...
ولقد قيل له يوما:
" توسّع بهذا الفائض على أهلم وأصهارك"..
فأجاب قائلا:
" ولماذا أهلي وأصهاري..؟
لا والله ما أنا ببائع رضا الله بقرابة"..

وطالما كان يقال له:
" توسّع وأهل بيتك في النفقة وخذ من طيّبات الحياة"..
ولكنه كان يجيب دائما، ويردد أبدا كلماته العظيمة هذه:
" ما أنا بالنتخلف عن الرعيل الأول، بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يجمع الله عز وجل الناس للحساب، فيحيء فقراء المؤمنين يزفون كما تزف الحامام، فيقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: ما كان لنا شيء نحاسب عليه.. فيقول الله: صدق عبادي.. فيدخلون الجنة قبل الناس"..
**

وفي العام العشرين من الهجرة، لقي سعيد ربه أنقى ما يكون صفحة، وأتقى ما يكون قلبا، وأنضر ما يكون سيرة..
لقد طال شوقه الى الرعيل الأول الذي نذر حياته لحفظه وعهده، وتتبع خطاه..
أجل لقد طال شوقه الى رسوله ومعلمه.. والى رفاقه الأوّابين المتطهرين..
واليوم يلاقيهم قرير العين، مطمئن النفس، خفيف الظهر..
ليس معه ولا وراءه من أحمال الدنيا ومتاعها ما يثقل ظهره وكاهله،،
ليس معه الا ورعه، وزهده، وتقاه، وعظمة نفسه وسلوكه..
وفضائل تثقل الميزان، ولكنها لا تثقل الظهور..!!
ومزايا هز بها صاحبها الدنيا، ولم يهزها غرور..!!
**

سلام على سعيد بن عامر..
سلام عليه في محياه، وأخراه..
وسلام.. ثم سلام على سيرته وذكراه..
وسلام على الكرام البررة.. أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.


*************************

حذيفة بن اليمان - عدوّ النفاق وصديق الوضوح

خرج أهل المدائن أفواجا يستقبلون واليهم الجديد الذي اختاره لهم أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه..
خرجوا تسبقهم أشواقهم الى هذا الصحابي الجليل الذي سمعوا الكثير عو ورعه وتقاه.. وسمعوا أكثر عن بلائه العظيم في فتوحات العراق..
واذ هم ينتظرون الموكب الوافد، أبصروا أمامهم رجلا مضيئا، يركب حمارا على ظهره اكاف قديم، وقد أسدل الرجل ساقيه، وأمسك بكلتا يديه رغيفا وملحا، وهو يأكل ويمضغ طعامه..!
وحين توسط جمعهم، وعرفوا أنه حذيفة بن اليمان الوالي الذي ينتظرون، كاد صوابهم يطير..!!
ولكن فيم العجب..؟!
وماذا كانوا يتوقعون أن يجيء في اختيار عمر..؟!
الحق أنهم معذورون، فما عهدت بلادهم أيام فارس، ولا قبل فارس ولاة من هذا الطراز الجليل.!!
وسار حذيفة، والناس محتشدون حوله، وحافون به..

وحين رآهم يحدّقون فيه كأنهم ينتظرون منه حديثا، ألقى على وجوههم نظرة فاحصة ثم قال:
" اياكم ومواقف الفتن"..!!
قالوا:
وما مواقف الفتن يا أبا عبدالله..!!
قال:
" أبواب الأمراء"..
يدخل أحدكم على الوالي أو الأمير، فيصدّقه بالكذب، ويمتدحه بما ليس فيه"..!
وكان استهلالا بارعا، بقدر ما هو عجيب..!!
واستعاد الانس موفورهم ما سمعوه عن واليهم الجديد، من أنه لا يمقت في الدنيا كلها ولا يحتقر من نقائصها شيئا أكثر مما يمقت النفاق ويحتقره.
وكان هذا الاستهلال أصدق تعبير عن شخصية الحاكم الجديد، وعن منهجه في الحكم والولاية..
**

فـ حذيفة بن اليمان رجل جاء الحياة مزودا بطبيعة فريدة تتسم ببغض النفاق، وبالقدرة الخارقة على رؤيته في مكامنه البعيدة.
ومنذ جاء هو أخوه صفوان في صحبة أبيهما الى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعنق ثلاثتهم الاسلام، والاسلام يزيد موهبته هذه مضاء وصقلا..
فلقد عانق دينا قويا، نظيفا، شجاعا قويما.. يحتقر الجبن والنفاق، والكذب...
وتأدّب على يدي رسول الله واضح كفق الصبح، لا تخفى عليهم من حياته، ولا من أعماق نفسه خافية.. صادق وأمين..يحب الأقوياء في الحق، ويمقت الملتوين والمرائين والمخادعين..!!

فلم يكن ثمة مجال ترعرع فيه موهبة حذيفة وتزدهر مثل هذا المجال، في رحاب هذا الدين، وبين يدي هذا الرسول، ووسط هذا ارّعيل العظيم من الأصحاب..!!
ولقد نمت موهبته فعلا أعظم نماء.. وتخصص في قراءة الوجوه والسرائر.. يقرأ الوجوه في نظرة.. ويبلوكنه الأعماق المستترة، والدخائل المخبوءة. في غير عناء..
ولقد بلغ من ذلك ما يريد، حتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وهو الملهم الفطن الأريب، يستدل برأي حذيفة، وببصيرته في اختيار الرجال ومعرفتهم.
ولقد أوتي حذيفة من الحصافة ما جعله يدرك أن الخير في هذه الحياة واضح لمن يريده.. وانما الشر هو الذي يتنكر ويتخفى، ومن ثم يجب على الأريب أن يعنى بدراسة الشر في مآتيه، ومظانه..
وهكذا عكف حذيفة رضي الله عنه على دراسة الشر والأشرار، والنفاق والمؤمنين..
يقول:
" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني..
قلت: يا رسول الله فهل بعد هذا الخير من شر؟
قال: نعم..
قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟
قال: نعم، وفيه دخن..
قلت: وما طخنه..؟
قال: قوم يستنون بغير سنتي.. ويهتدون يغير هديي، وتعرف منهم وتنكر..
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر..؟
قال: نعم! دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم اليها قذفوه فيها..
قلت: يا رسول الله، فما تأمرني ان أدركني ذلك..؟
قال: تلزم جماعة المسلمين وامامهم..
قلت: فان لم يكن لهم جماعة ولا امام..؟؟
قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك"..!!
أرأيتم قوله:" كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني"..؟؟

لقد عاش حذيفة بن اليمان مفتوح البصر والبصيرة على مآتي الفتن، مسالك الشرور ليتقها، وليحذر الناس منها. ولقد أفاء عليه هذا بصرا بالدنيا، وخبرة بالانس، ومعرفة بالزمن.. وكلن يدير المسائل في فكره وعقله بأسلوب فيلسوف، وحصانة حكيم...

ويقول رضي الله عنه:
" ان اله تعالى بعث محدا صلى الله عليه وسلم، فدعا الانس من الضلالة الى الهدى، ومن الكفر الى الايمان، فاستجاب له من استجاب، فحيي بالحق من كان ميتا...
ومات بالباطل من كان حيا..
ثم ذهبت النبوة وجاءت الخلافة على مناهجها..
ثم يكون ملكا عضوضا..!!
فمن الانس من ينكر بقلبه، ويده ولسانه.. أولئك استجابوا لحق..
ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه، كافا يده، فهذا ترك شعبة من الحق..
ومنهم من ينكر بقلبه، كافا يده ولسانه، فهذا ترك شعبتين من الحق..
ومنهم من لا ينكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه، فذلك ميّت الأحياء"...!

ويتحدّث عن القلوب وعن حياة الهدى والضلال فيها فيقول:
" القلوب أربعة:
قلب أغلف، فذلك قلب الكافر..
وقلب مصفح، فذلك قلب المنافق..
وقلب أجرد، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن..
وقلب فيه نفاق وايمان، فمثلالايمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب.. ومثل النفاق كقرحة يمدّها قيح ودم: فأيهما غلب، غلب"...!!

وخبرة حذيفة بالشر، واصراره على مقاومته وتحدّيه، أكسبا لسانه وكلماته شيئا من الحدّة، وينبأ هو بهذا في شجاعة نبيلة:
فيقول:
" جئت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، ان لي لسانا ذربا على أهلي، وأخشى أن يدخلني النار..
فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: فأين أنت من الاستغفار..؟؟ اني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"...
**

هذا هو حذيفة عدو النفاق، صديق الوضوح..
ورجل من هذا الطراز، لا يكون ايمانه الا وثيقا.. ولا يكون ولاؤه الا عميقا.. وكذلكم كان حذيفة في ايمانه وولائه..
لقد رأى أباه المسلم يصرع يوم أحد..وبأيد مسلمة، قتلته خطأ وهي تحسبه واحدا من المشريكن..!!
وكان حذيفة يتلفت مصادفة، فرأى السيوف تنوشه، فصاح في ضاربيه: أبي... أبي.. انه أبي..!!
لكن القضاء كان قد حم..
وحين عرف المسلمون، تولاهم الحزن والوجوم.. لكنه نظر اليهم نظرة اشفاق ومغفرة، وقال:
" يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين"..
ثم انطلق بسيفه صوب المعركة المشبوبة يبلي فيها بلاءه، ويؤدي واجبه..
وتنتهي المعركة، ويبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأمر بالدية عن والد حذيفة "حسيل بن جابر" رضي الله عنه، ويتصدّق بها على المسلمين، فيزداد الرسول حبا له وتقديرا...
**

وايمان حذيفة وولاؤه، لا يعترفان
بالعجز، ولا بالضعف..بل ولا بالمستحيل....
في غزوة الحندق..وبعد أن دبّ الفشل في صفوف كفار قريش وحلفائهم من اليهود، أراد رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقف على آخر تطوّرات الموقف هناك في معسكر أعدائه.

كان اليل مظلما ورهيبا.. وكانت العواصف تزأر وتصطخب، كأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء الراسيات من مكانها.. وكان الموقف كله بما فيه من حصار وعناد واصرار يبعث على الخوف والجزع، وكان الجوع المضني قد بلغ مبلغا وعرا بين اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم..
فمن يملك آنئذ القوة،وأي قوة ليذهب وسط مخاطر حالكة الى معسكر الأعداء ويقتحمه، أو يتسلل داخله ثم يبلوا أمرهم ويعرف أخبارهم..؟؟
ان الرسول هو الذي سيختار من أصحابه من يقوم بهذه المهمة البالغة العسر..
ترى من يكون البطل..؟
انه هو..حذيفة بن اليمان..!
دعاه الرسول صلى الله عليه وسلم فلبى، ومن صدقه العظيم يخبرنا وهو يروي النبأ أنه لم يكن يملك الا أن يلبي.. مشيرا بهذا الى أنه كان يرهب المهمة الموكولة اليه، ويخشى عواقبها، والقيام بها تحت وطأة الجوع، والصقيع، والاعياء الجديد الذي خلفهم فيه حصار المشركين شهرا أو يزيد..!
وكان أمر حذيفة تلك الليلة عجيبا...
فاقد قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار.. وتسلل الى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية قد أطفأت نيران المعسكر، فخيّم عليه الظلام،واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين...
وخشي أبوسفيان قائد قؤيش، أن يفجأهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذر جيشه، وسمعه حذيفة يقول بصوته المرتفع:
" يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه".
يقول حذيفة"
" فسارعت الى يد الرجل الذي بجواري، وقلت لهمن أنت..؟ قال: فلان بن فلان؟"...
وهكذا أمّن وجوده بين الجيش في سلام..!
واستأنف أبو سفيان نداءه الى الجيش قائلا:" يا معشر قريش.. انكم والله ما أصبحتم بدار مقام.. لقد هلكت الكراع _ أي الخيل_ والخف_ أي الابل_، وأخلفتنابنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فاني مرتحل"..
ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير فتبعه المحاربون..
يقول حذيفة:
[font:b85e=Times New R
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:22 pm

أبو موسى الأشعري - الاخلاص.. وليكن ما يكون

عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة، ليكون أميرها وواليها، جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

" ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم، أعلمكم كتار بكم، وسنة نبيكم، وأنظف لكم طرقكم"..!!
وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم، فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير، أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم، فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..
فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:
" ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟
**

انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..
غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة، ويأمر بمكارم الأخلاق..
وفي مكة، جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..
وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله، ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..
ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..
وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده، بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام، وأخوان شقيقان له، هم، أبو رهم، وأبو بردة..
وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..
ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..
وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه، فيقول فيهم وعنهم:
" ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو، أو قلّ في أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموا بالسويّة.
" فهم مني.. وانا منهم"..!!
ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين، الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته، وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..
**

أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..
فهو مقاتل جسور، ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..
وهو مسالم طيب، وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!
وهو فقيه، حصيف، ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور، ويتألق في الافتاء والقضاء، حتى قيل:
" قضاة هذه الأمة أربعة:
" عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!
ثم هو مع هذا، صاحب فطرة بريئة، من خدعه في الله، انخدع له..!!
وهو عظيم الولاء والمسؤولية..
وكبير الثقة بالناس..
لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا، لكانت هذه العبارة:
" الاخلاص وليكن ما يكون"..
في مواطن الجهاد، كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:
" سيّد الفوارس، أبو موسى"..!!
وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:
" خرجنا مع رسول الله في غزاة، نقبت فيها أقدامنا، ونقّبت قدماي، وتساقطت أظفاري، حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!
وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..
فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل، ويحسمها في عزم أكيد..

ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..
بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..
ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة، وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!
**

وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس، كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..
وفي موقعة تستر بالذات، حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها، وجمع فيها جيوشا هائلة، كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..
ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين، على رأسهم عمار بن ياسر، والبراء بن مالك، وأنس بن مالك، ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..
واتقى الجيشان..
جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..
وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..
وحاصرها المسلمون أياما طويلة، حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..
وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي، أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة، أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.
ولم تكد الأبواب تفتح، وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.
واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس، حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..
**

على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد، لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب، بكّاء وديع كالعصفور...
يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:
" لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!
كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:
" شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..
كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة، جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..
أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم، فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.
ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية، وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.
ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة، وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.
هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.
بيد أن الموقف كما سنراه، وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ، انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل، عظمة نفسه، وعظمة ايمانه بالحق، وبالناس، ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا، كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.
نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ، كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.
ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم، فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا، وليتنازل عنها معاوية، على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.
هكذا ناقش أبو موسى القضية، وهكذا كان حله.
صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.
وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام، في رأي أبي موسى، قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية، لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..
بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.
فازاحة أسباب النزاع والحرب، وتنحية أطرافه، مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..
ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم، أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس، أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.
وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية، بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..
ولم يكن في دين أبي موسى، ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة، ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين، ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد، تزيد الأمور سوءا...
**

بدأ التحيكم بين الفريقين..
أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..
وعمرو بن العاص، يمثل جانب معاوية.
والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.
ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين، الأشعري، وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين، وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.
ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..
ان مغزى اقتراح أبي موسى، أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..
ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..
وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته، فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.
ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم، فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا، وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم، فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..
وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..
ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:
أبو موسى: يا عمرو، هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟
عمرو: وما هو..؟
أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر، فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.
عمرو: وأين أنت من معاوية..؟
أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.
عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟
أبو موسى: بلى..
عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان، وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان، والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا، اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أصحابه..
أبو موسى: اتق الله يا عمرو..
أمّا ما ذكرت من شرف معاوية، فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟
وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان، فأولى منه عمرو بن عثمان..
ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره، بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..
عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟
أبو موسى: ان ابنك رجل صدق، ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا، فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..
عمرو: يا أبا موسى، انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما، ويطعم بالآخر..!!
أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف، وتشاكوا بالرماح، فلا نردهم في فتنة.
عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين، عليّا ومعاوية، ثم نجعلها شورى بين المسلمين، يختارون لأنفسهم من يحبوا..
عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..
ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..
ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..
بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..
فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش، وولايته لدم عثمان، جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..
اذا كانت الخلافة بالشرف، فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..
واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه، فابن عثمان رضي الله عنه، اولى بهذه الولاية من معاوية..
**

لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..
فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة، تقول كلمتها وتخنار خليفتها..
ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..
ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة، سيلجأ الى المناورة، هما يكن اقتناعه بمعاوية..
ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..
حذره من مناورات عمرو وقال له:
" أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك، فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم، ثم تكلم أنت بعده"..!
لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو، ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..
واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي، وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..
ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:

" ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!
وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.
وقال:
" أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة، ويصلح أمرها، فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية، وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..
واني قد خلعت عليا ومعاوية..
فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...
وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية، كما خلع أبو موسى عليا، تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...
وصعد عمرو المنبر، وقال:
" أيها الناس، ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه،
ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه، وأحق الناس بمقامه.."!!
ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة، فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..
وعاد من جديد الى عزلته، وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام، يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..
كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه، وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...
ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..
وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..
وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..
وولاه الخليفة عثمان الكوفة..
**

وكان من أهل القرآن، حفظا، وفقها، وعملا..
ومن كلماته المضيئة عن القرآن:
" اتبعوا القرآن..
ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!
وكان من اهل العبادة المثابرين..
وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس، كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:
" لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..
**

وذات يوم رطيب جاءه أجله..
وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز
والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة، راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز
تلك هي:
" اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[

سالم مولى أبي حذيفة - بل نعم حامل القرآن

أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه يوما، فقال:
" خذوا القرآن من أربعة:
عبدالله بن مسعود..
وسالم مولى أبي حذيفة..
وأبيّ بن كعب..
ومعاذ بن جبل.."
ولقد التقينا من قبل بابن مسعود، وأبيّ،ومعاذ..
فمن هذا الصحابي الرابع الذي جعله الرسول حجّة في تعليم القرآن ومرجعا..؟؟
انه سالم، مولى أبي حذيفة..

كان عبدا رقيقا، رفع الاسلام من شأنه حتى جعل منه ابنا لواحد من كبار المسلمين كان قبل اسلامه شريفا من أشراف قريش، وزعيما من زعمائها..
ولما أبطل الاسلام عادة التبني، صار أخا ورفيقا، ومولى للذي كان يتبناه وهو الصحابي الجليل: أبو حذيفة بن عتبة..
وبفضل من الله ونعمة على سالم بلغ بين المسلمين شأوا رفيعا وعاليا، أهّلته له فضائل روحه، وسلوكه وتقواه.. وعرف الصحابي الجليل بهذه التسمية: سالم مولى أبي حذيفة.
ذلك أنه كان رقيقا وأعتق..
وآمن باله ايمانا مبكرا..
وأخذ مكانه بين السابقين الأولين..
وكان حذيفة بن عتبة، قد باكر هو الآخر وسارع الى الاسلام تاركا أباه عتبة بن ربيعة يجتر مغايظه وهموهه التي عكّرت صفو حياته، بسبب اسلام ابنه الذي كان وجيها في قومه، وكان أبوه يعدّه للزعامة في قريش..
وتبنى أبو حذيفة سالما بعد عتقه، وصار يدعى بسالم بن أبي حذيفة..
وراح الاثنان يعبدان ربهما في اخبات، وخشوع.. ويصبران أعظم الصبر على أذى قريش وكيدها..
وذات يوم نزلت آية القرآن التي تبطل عادة التبني..
وعاد كل متبني ليحمل اسم أبيه الحقيقي الذي ولده وأنجبه..

فـ زيد بن حارثة مثل، الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام قد تبناه، وعرف بين المسلمين بزيد بن محمد، عاد يحمل اسم أبيه حارثة فصار زيد بن جارثة ولكنّ سالما لم يكن يعرف له أب، فوالى أبا حذيفة، وصار يدعى سالم مولى أبي حذيفة..
ولعل الاسلام حين أبطل عادة التبني، انما أراد أن يقول للمسلمين لا تلتمسوا رحما، ولا قربى، ولا صلة توكدون بها اخاءكم، أكبر ولا أقوى من الاسلام نفسه.. والعقيدة التي يجعلكم بها اخوانا..!!
ولقد فهم المسلمون الأوائل هذا جيدا..
فلم يكن شيء أحب الى أحدهم بعد الله ورسوله، من اخزوانهم في الله وفي الاسلام..
ولقد رأينا كيف استقبل الأنصار اخوانهم المهاجرين، فشاطروهم أموالهم، ومساكنهم، وكل ما يملكون..!!
وهذا هو الذي رأينا يحدث بين أبي حذيفة الشريف في قريش، مع سالم الذي كان عبدا رقسقا، لا يعرف أبوه..
لقد ظلا الى آخر لحظة من حياتهما أكثر من اخوين شقيقين حتى عند الموت ماتا معا.. الروح مع الروح.. والجسد الى جوار الجسد..!!
تلك عظمة الاسلام الفريدة..
بل تلك واحدة من عظائمه ومزاياه..!!
**

لقد آمن سالم ايمان الصادقين..
وسلك طريقه الى الله سلوك الأبرار المتقين..
فلم يعد لحسبه، ولا لموضعه من المجتمع أي اعتبار..
لقد ارتفع بتقواه واخلاصه الى أعلى مراتب المجتمع الجديد الذي جاء الاسلام يقيمه وينهضه على أساس جديد عادل عظيم...
أساس تلخصه الآية الجليلة:
" ان أكرمكم عند الله أتقاكم"..!!
والحديث الشريف:
" ليس لعربي على عجمي فضل الا بالتقوى"..
و" ليس لابن البضاء على ابن السوداء فضل الا بالتقوى"..
**

في هذا المجتمع الجديد الراشد، وجد أبو حذيفة شرفا لنفسه أن يوالي من كان بالأمس عبدا..
بل ووجد شرفا لأسرته، أن يزوج سالما ابنه أخيه فاطمة بنت الوليد بنت عتبة..!!
وفي هذا المجتمع الجديد، والرشيد، الذي هدّم الطبقية الظالمة، وأبطل التمايز الكاذب، وجد سالم بسبب صدقه، وايمانه، وبلائه، وجد نفسه في الصف الأول دائما..!!
أجل.. لقد كان امام للمهاجرين من مكة الى المدينة طوال صلاتهم في مسجد قباء..
وكان حجة في كتاب الله، حتى أمر النبي المسلمين أن يتعلموا منه..!!
وكان معه من الخير والتفوق ما جعل الرسول عليه السلام يقول له:
" الحمد لله، الذي جعل في أمتي مثلك"..!!
وحتى كان اخوانه المؤمنين يسمونه:
" سالم من الصالحين"..!!
ان قصة سالم كقصة بلال وكقصة عشرات العبيد، والفقراء الذين نفض عنهم عوادي الرق والضعف، وجعلهم في مجتمع الهدى والرشاد أئمة، وزعماء وقادة..
كان سالم ملتقى لكل فضائل الاسلام الرشيد..
كانت الفضائل تزدحم فيه وحوله.. وكان ايمانه العميق الصادق ينسقها أجمل تنسيق.
وكان من أبرز مزاياه الجهر بما يراه حقا..
انه لا يعرف الصمت تجاه كلمة يرى من واجبه أن يقولها..
ولا يخون الحياة بالسكوت عن خطأ يؤدها..
**

بعد أن فتحت مكة للمسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا الى ما حول مكة من قرى وقبائل، وأخبرهم أنه عليه السلام، انما يبعث بهم دعاة لا مقاتلين..
وكان على رأس احدى هذه السرايا خالد بن الوليد..
وحين بلغ خالد وجهته، حدث ما جعله يستعمل السيوف، ويرق الدماء..
هذه الواقعة التي عندما سمع النبي صلى الله عليه وسلم نبأها، اعتذر الى ربه طويلا، وهو يقول:
" اللهم اني أبرأ اليك مما صنع خالد"..!!
والتي ظل أمير المؤمنين عمر يذكرها له ويأخذها عليه، ويقول:
" ان في سيف خالد رهقا"..
وكان يصحب خالد في هذه السرية سالم مولى أبي حذيفة مع غيره من الأصحاب..
ولم يكد سالم يرى صنيع خالد حتى واجهه بمناقشة حامية، وراح يعدّد له الأخطاء التي ارتكبت..

وخالد البطل القائد، والبطل العظيم في الجاهلية، والاسلام، ينصت مرة ويدافع عن نفسه مرة ثانية ويشتد في القول مرة ثالثة وسالم مستمسك برأيه يعلنه في غير تهيّب أو مداراة..
لم يكن سالم آنئذ ينظر الى خالد كشريف من أشراف مكة.. بينما هو من كان بالأمس القريب رقيقا.
لا.. فقد سوّى الاسلام بينهما..!!
ولم يكن ينظر اليه كقائد تقدّس أخطاؤه.. بل كشريك في المسؤولية والواجب..
ولم يكن يصدر في معارضته خالدا عن غرض، أو سهوه، بل هي النصيحة التي قدّس الاسلام حقها، والتي طالما سمع نبيه عليه الصلاة والسلام يجعلها قوام الدين كله حين يقول:
" الدين النصيحة..
الدين النصيحة..
الدين النصيحة".
**

ولقد سأل الرسول عليه السلام، عندما بلغه صنيع خالد بن الوليد..
سأل عليه السلام قائلا:
" هل أنكر عليه أحد"..؟؟
ما أجله سؤالا، وما أروعه..؟؟!!
وسكن غضبه عليه السلام حين قالوا له:
" نعم.. راجعه سالم وعارضه"..
وعاش سالم مع رسوله والمؤمنين..
لا يتخلف عن غزوة ولا يقعد عن عبادة..
وكان اخاؤه مع أبي حذيفة يزداد مع الأيام تفانيا وتماسكا..
**

وانتقل الرسول الى الرفيق الأعلى..
وواجهت خلافة أبي كبر رضي الله عنه مؤامرات المرتدّين..
وجاء يوم اليمامة..
وكانت حربا رهبة، لم يبتل الاسلام بمثلها..
وخرج المسلمون للقتال..
وخرج سالم وأخوه في الله أبو حذيفة..
وفي بدء المعركة لم يصمد المسلمون للهجوم.. وأحسّ كل مؤمن أن المعركة معركته، والمسؤولية مسؤوليته..
وجمعهم خالد بن الوليد من جديد..
وأعاد تنسيق الجيش بعبقرية مذهلة..
وتعانق الأخوان أبو حذيفة وسالم وتعاهدا على الشهادة في سبيل الدين الحق الذي وهبهما سعادة الدنيا والآخرة..
وقذفا نفسيهما في الخضمّ الرّهيب..!!
كان أبو حذيفة ينادي:
" يا أهل القرآن..
زينوا القرآن بأعمالكم".
وسيفه يضرب كالعاصفة في جيش مسيلمة الكذاب.
وكان سالم يصيح:
" بئس حامل القرآن أنا..
لو هوجم المسلمون من قبلي"..!!
حاشاك يا سالم.. بل نعم حامل القرآن أنت..!!
وكان سيفه صوّال جوّال في أعناق المرتدين، الذين هبوا ليعيدوا جاهلية قريش.. ويطفؤا نور الاسلام..
وهوى سيف من سيوف الردة على يمناه فبترها.. وكان يحمل بها راية المهاجرين بعد أن سقط حاملها زيد بن الخطاب...
ولما رأى يمناه تبتر، التقط الراية بيسراه وراح يلوّح بها الى أعلى وهو يصيح تاليا الآية الكريمة:

( وكأيّ من نبي قاتل معه ربيّون كثير، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين)...
ألا أعظم به من شعار.. ذلك الذي اختاره يوم الموت شعارا له..!!
**

وأحاطت به غاشية من المرتدين فسقط البطل.. ولكن روحه ظلت تتردد في جسده الطاهر، حتى انتهت المعركة بقتل نسلمة الكذاب واندحار جيش مسيلمة وانتصار المسلمين..
وبينما المسلمون يتفقدون ضحاياهم وشهداءهم وجدوا سالما في النزع الأخير..
وسألهم:
ما فعل أبو حذيفة..؟؟
قالوا: استشهد..
قال: فأضجعوني الى جواره..
قالوا: انه الى جوارك يا سالم.. لقد استشهد في نفس المكان..!!
وابتسم ابتسامته الأخيرة..
ولم يعد يتكلم..!!
لقد أدرك هو وصاحبه ما كانا يرجوان..!!
معا أسلما..
ومعا عاشا..
ومعا استشهدا..
يا لروعة الحظوظ، وجمال المقادير..!!
وذهب الى الله، المؤمن الكبير الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يموت:
" لو كان سالم حيّا، لوليته الأمر من بعدي"..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:25 pm

عبدالله بن عباس - حبر هذه الأمة

يشبه ابن عباس، عبدالله بن الزبير في أنه أدرك الرسول وعاصره وهو غلام، ومات الرسول قبل أن يبلغ ابن عباس سنّ الرجولة.

لكنه هو الآخر تلقى في حداثته كل خامات الرجولة، ومبادئ حياته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يؤثره، ويزكيه، ويعلّمه الحكمة الخالصة.
وبقوة ايمانه، وقوة خلقه، وغزارة علمه، اقتعد ابن عباس رضي الله عنه مكانا عاليا بين الرجال حول الرسول.
**

هو ابن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، عم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولقبه الحبر.. حبر هذه الأمة، هيأه لهذا اللقب، ولهذه المنزلة استنارة عقله وذكاء قلبه، واتساع معارفه.
لقد عرف ابن عباس طريق حياته في أوليات أيامه وازداد بها معرفة عندما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام يدنيه منه وهو طفل ويربّت على كتفه وهو يقول:
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل".
ثم توالت المناسبات والفرص التي يكرر فيها الرسول هذا الدعاء ذاته لابن عمه عبدالله بن عباس.. وآنئذ أدرك ابن عباس أنه خلق للعلم، والمعرفة.
وكان استعداده العقلي يدفعه في هذا الطريق دفعا قويا.

فعلى الرغم من أنه لم يكن قد جاوز الثالثة عشرة من عمره يوم مات رسول الله، فانه لم يصنع من طفولته الواعية يوما دون أن يشهدمجالس الرسول ويحفظ عنه ما يقول..
وبعد ذهاب الرسول الى الرفيق الأعلى حرص ابن عباس على أن يتعلم من أصحاب الرسول السابقين ما فاته سماعه وتعلمه من الرسول نفسه..
هنالك، جعل من نفسه علامة استفهام دائمة.. فلا يسمع أن فلانا يعرف حكمة، أو يحفظ حديثا، الا سارع اليه وتعلم منه..
وكان عقله المضيء الطموح يدفعه لفحص كل ما يسمع.. فهو لا يغنى بجمع المعرفة فحسب، بل ويغنى مع جمعها بفحصها وفحص مصادرها..
يقول عن نفسه:
" ان كنت لأسأل عن الأمر الواحد، ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ويعطينا صورة لحرصه على ادراكه الحقيقة والمعرفة فيقول:
" لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لفتى من الأنصار:
هلمّ فلنسأل أصحاب رسول الله، فانهم اليوم كثير.
فقال: يا عجبا لك يا بن عباس!! أترى الناس يفتقرون اليك، وفيهم من أصحاب رسول الله من ترى..؟؟
فترك ذلك، وأقبلت أنا أسأل أصحاب رسول الله.. فان كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتي اليه وهو قائل في الظهيرة، فأتوسّد ردائي على بابه، يسفي الريح عليّ من التراب، حتى ينتهي من مقيله، ويخرج فيراني، فيقول: يا ابن عم رسول الله ما جاء بك..؟؟ هلا أرسلت اليّ فآتيك..؟؟ فأقول لا، أنت أحق بأن أسعى اليك، فأسأله عنه الحديث وأتعلم منه"..!!
هكذا راح فتانا العظيم يسأل، ويسأل، ويسأل.. ثم يفحص الاجابة مع نفسه، ويناقشها بعقل جريء.
وهو في كل يوم، تنمو معارفه، وتنمو حكمته، حتى توفرت له في شبابه الغضّ حكمة الشيوخ وأناتهم، وحصافتهم، وحتى كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يحرص على مشورته في كل أمر كبير.. وكان يلقبه بفتى الكهول..!!
سئل ابن عباس يوما:" أنّى أصبت هذا العلم"..؟
فأجاب:
" بلسام سؤل..
وقلب عقول"..
فبلسانه المتسائل دوما، وبعقله الفاحص أبدا، ثم بتواضعه ودماثة خلقه، صار ابن عباس" حبر هذه الأمة..
ويصفه سعد بن أبي وقاص بهذه الكلمات:
" ما رأيت أحدا أحضر فهما، ولا أكبر لبّا، ولا أكثر علما، ولا أوسع حلما من ابن عباس..
ولقد رأيت عمر يدعوه للمعضلات، وحوله أهل بدر من المهاجرين والأنصار فيتحدث ابن عباس، ولا يجاوز عمر قوله"..
وتحدث عنه عبيد بن عتبة فقال:
" ما رأيت أحدا كان أعلم بما سبقه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابن عباس..
ولا رأيت أحدا، أعلم بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان منه..
ولا أفقه في رأي منه..
ولا أعلم بشعر ولا عربية، ولا تفسير للقرآن، ولا بحساب وفريضة منه..
ولقد كان يجلس يوما للفقه.. ويوما للتأويل.. يوما للمغازي.. ويوما للشعر.. ويوم لأيام العرب وأخبارها..
وما رأيت عالما جلس اليه الا خضع له، ولا سائلا الا وجد عنده علما"..!!
**

ووصفه مسلم من أهل البصرة، وكان ابن عباس قد عمل واليا عليها للامام عليّ ابن أبي طالب، فقال:
" انه آخذ بثلاث، تارك لثلاث..
آخذ بقلوب الرجال اذا حدّث..
وبحسن الاستماع اذا حدّث..
وبأيسر الأمرين اذا خولف..
وتارك المراء..
ومصادقة اللئام..
وما يعتذر منه"..!!
**

وكان تنوّع ثقافته، وشمول معرفته ما يبهر الألباب.. فهو الحبر الحاذق الفطن في كل علم.. في تفسير القرآن وتأويله وفي الفقه.. وفي التاريخ.. وفي لغة العرب وآدابهم، ومن ثمّ فقد كان مقصد الباحثين عن المعرفة، يأتيه الناس أفواجا من أقطار الاسلام، ليسمعوا منه، وليتفقهوا عليه..
حدّث أحد أصحابه ومعاصريه فقال:
" لقد رأيت من ابن عباس مجلسا، لو أن جميع قريش فخرت به، لكان لها به الفخر..
رأيت الناس اجتمعوا على بابه حتى ضاق بهم الطريق، فما كان أحد يقدر أن يجيء ولا أن يذهب..
فدخلت عليه فأخبرته بمكانهم على بابه، فقال لي: ضع لي وضوءا، فتوضأ وجلس وقال: أخرج اليهم، فادع من يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله..فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سالوا عن شيء الا اخبرهم وزاد..
ثم قال لهم: اخوانكم.. فخرجوا ليفسحوا لغيرهم.
ثم قال لي: أخرج فادع من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام..
فخرجت فآذنتهم: فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوا عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
ثم قال: اخوانكم.. فخرجوا..
ثم قال لي: ادع من يريد أن يسأل عن الفرائض، فآذنتهم، فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم..
ثم قال لي: ادع من يريد أن يسال عن العربية، والشعر..
فآذنتهم فدخلوا حتى ملؤا البيت، فما سألوه عن شيء الا أخبرهم وزادهم"!!

وكان ابن عباس يمتلك الى جانب ذاكرته القوية، بل الخارقة، ذكاء نافذا، وفطنة بالغة..
كانت حجته كضوء الشمس ألقا، ووضوحا، وبهجة.. وهو في حواره ومنطقه، لا يترك خصمه مفعما بالاقتناع وحسب، بل ومفعما بالغبطة من روعة المنطق وفطنة الحوار..
ومع غزارة علمه، ونفاذ حجته، لم يكن يرى في الحوار والمناقشة معركة ذكاء، يزهو فيها بعلمه، ثم بانتصاره على خصمه.. بل كان يراها سبيلا قويما لرؤية الصواب ومعرفته..
ولطالما روّع الخوارج بمنطقه الصارم العادل..
بعث به الامام عليّ كرّم الله وجهه ذات يوم الى طائفة كبيرة منهم فدار بينه وبينهم حوار رائع وجّه فيه الحديث وساق الحجة بشكل يبهر الألباب..
ومن ذلك الحوار الطويل نكتفي بهذه الفقرة..
سألهم ابن عباس:
" ماذا تنقمون من عليّ..؟"
قالوا:
" ننتقم منه ثلاثا:
أولاهنّ: أنه حكّم الرجال في دين الله، والله يقول ان الحكم الا لله..
والثانية: أنه قاتل، ثم لم يأخذ من مقاتليه سبيا ولا غنائم، فلئن كانوا كفارا، فقد حلّت أموالهم، وان كانوا مؤمنين فقد حرّمت عليه دماؤهم..!!
والثالثة: رضي عند التحكيم أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، استجابة لأعدائه، فان لم يكن امير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.."
وأخذ ابن عباس يفنّد أهواءهم فقال:
" أما قولكم: انه حكّم الرجال في دين الله، فأيّ بأس..؟
ان الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم..
فنبؤني بالله: أتحكيم الرجال في حقن دماء المسلمين أحق وأولى، أم تحكيمهم في أرنب ثمنها درهم..؟؟!!
وتلعثم زعماؤهم تحت وطأة هذا المنطق الساخر والحاسم.. واستأنف حبر الأمة حديثه:
" وأما قولكم: انه قاتل فلم يسب ولم يغنم، فهل كنتم تريدون أن يأخذ عائشة زوج الرسول وأم المؤمنين سبيا، ويأخذ أسلابها غنائم..؟؟
وهنا كست وجوههم صفرة الخحل، وأخذوا يوارون وجوههم بأيديهم..
وانتقل ابن عباس الى الثالثة:
" وأما قولكم: انه رضي أن يخلع عن نفسه صفة أمير المؤمنين، حتى يتم التحكيم، فاسمعوا ما فعله الرسول يوم الحديبية، اذ راح يملي الكتاب الذي يقوم بينه وبين قريش، فقال للكاتب: اكتب. هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله. فقال مبعوث قريش: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك..
فاكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله.. فقال لهم الرسول: والله اني لرسول الله وان كذبتم.. ثم قال لكاتب الصحيفة: أكتب ما يشاءون: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"..!!
واستمرّ الحوار بين ابن عباس والخوارج على هذا النسق الباهر المعجز.. وما كاد ينتهي النقاش بينهم حتى نهض منهم عشرون ألفا، معلنين اقتناعهم، ومعلنين خروجهم من خصومة الامام عليّ..!!
**

ولم يكن ابن عباس يمتلك هذه الثروة الكبرى من العلم فحسب. بل كان يمتلك معها ثروة أكبر، من أخلاق العلم وأخلاق العلماء.
فهو في جوده وسخائه امام وعلم..
انه ليفيض على الناس من ماله.. بنفس السماح الذي يفيض به عليهم من علمه..!!
ولقد كان معاصروه يتحدثون فيقولون:
" ما رأينا بيتا أكثر طعاما، ولا شرابا، ولا فاكهة، ولا علما من بيت ابن عباس"..!!
وهو طاهر القلب، نقيّ النفس، لا يحمل لأحد ضغنا ولا غلا.
وهوايته التي لا يشبع منها، هي تمنّيه الخير لكل من يعرف ومن لا يعرف من الناس..
يقول عن نفسه:
" اني لآتي على الآية من كتاب الله فأود لو أن الناس جميعا علموا مثل الذي أعلم..
واني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يقضي بالعدل، ويحكم بالقسط، فأفرح به وأدعو له.. ومالي عنده قضيّة..!!
واني لأسمع بالغيث يصيب للمسلمين أرضا فأفرح به، ومالي بتلك الأرض سائمة..!!"
**

وهو عابد قانت أوّاب.. يقوم من الليل، ويصوم من الأيام، ولا تخطئ العين مجرى الدموع تحت خديّه، اذ كان كثير البكاء كلما صلى.. وكلما قرأ القرآن..
فاذا بلغ في قراءته بعض آيات الزجر والوعيد، وذكر الموت، والبعث علا نشيجه ونحيبه.
**

وهو الى جانب هذا شجاع، أمين، حصيف.. ولقد كان له في الخلاف بين عليّ ومعاوية آراء تدلّ على امتداد فطنته، وسعة حيلته.
وهو يؤثر السلام على الحرب.. والرفق على العنف.. والمنطق على القسر..
عندما همّ الحسين رضي الله عنه بالخروج الى العراق ليقاتل زيادا، ويزيد، تعلق ابن عباس به واستمات في محاولة منعه.. فلما بلغه فيما بعد نبأ استشهاده، أقضّه الحزن عليه، ولزم داره.
وفي كل خلاف ينشب بين مسلم ومسلم، لم تكن تجد ابن عباس الا حاملا راية السلم، والتفاهم واللين..
صحيح أنه خاض المعركة مع الامام عليّ ضد معاوية. ولكنه فعل ذلك لأن المعركة في بدايتها كانت تمثل ردعا لازما لحركة انشقاق رهيبة، تهدد وحدة الدين ووحدة المسلمين.
**

وعاش ابن عباس يمأ دنباه علما وحكمة، وينشر بين الناس عبيره وتقواه..
وفي عامه الحادي والسبعين، دعي للقاء ربه العظيم وشهدت مدينة الطائف مشهدا حافلا لمؤمن يزف الى الجنان.
وبينما كان جثمانه يأخذ مستقره الآمن في قبره، كانت جنبات الأفق تهتز بأصداء وعد الله الحق:
( يا أيتها النفس المطمئنة
ارجعي الى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي
وادخلي جنتي)
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:29 pm

سعد بن معاذ - هنيئا لك يا أبا عمرو

في العام الواحد والثلاثين من عمره، أسلم..

وفي السابع والثلاثين مات شهيدا..
وبين يوم اسلامه، ويوم وفاته، قضى سعد بن معاذ رضي الله عنه أياما شاهقة في خدمة الله ورسوله..

**

انظروا..
أترون هذا الرجل الوسيم، الجليل، الفارع الطول، المشرق الوجه، الجسيم، الجزل.؟؟
انه هو..
يقطع الأرض وثبا وركضا الى دار أسعد بن زرارة بيرى هذا الرجل الوافد من مكة مصعب بن عمير الذي بعث به محمدا عليه الصلاة والسلام الى المدينة يبشّر فيها بالتوحيد والاسلام..
أجل.. هو ذاهب الى هناك ليدفع بهذا الغريب خارج حدود المدينة، حاملا معه دينه.. وتاركا للمدينة دينها..!!
**

ولكنه لا يكاد يقترب من مجلس مصعب في دار ابن خالته أسيد بن زرارة، حتى ينتعش فؤاده بنسمات حلوة هبّت عليه هبوب العافية..
ولا يكاد يبلغ الجالسين، ويأخذ مكانه بينهم، ملقيا سمعه لكلمات مصعب حتى تكون هداية الله قد أضاءت نفسه وروحه..
وفي احدى مفاجآت القدر الباهرة المذهلة، يلقي زعيم الأنصار حبته بعيدا، ويبسط يمينه مبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وباسلام سعد بن معاذ تشرق في المدينة شمس جديدة، ستدور في فلكها قلوب كثيرة تسلم مع حمد لله رب العالمين..!!
أسلم سعد.. وحمل تبعات اسلامه في بطولة وعظمة..
وعندما هاجر رسول الله وصحبه الى المدينة كانت دور بني عبد الأشهل قبيلة سعد مفتحة الأبواب للمهاجرين، وكانت أموالهم كلها تحت تصرّفهم في غير منّ، ولا أذى.. ولا حساب..!!
**

وتجيء غزوة بدر..
ويجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين والأنصار، ليشاورهم في الأمر.
وييمّم وجهه الكريم شطر الأنصار ويقول:
" أشيروا عليّ أيها الناس.."
ونهض سعد بن معاذ قائما كالعلم.. يقول:
" يا رسول الله..
لقد آمنا بك، وصدّقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا..
فامض يا رسول الله لما أردت، فنحن معك..
ووالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا..
انا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء..
ولعلّ الله يريك ما تقرّ به عينك...
فسر بنا على بركة الله"...
**

أهلت كلمات سعد كالبشريات، وتألق وجه الرسول رضا وسعادة وغبطة، فقال للمسلمين:
" سيروا وأبشروا، فان الله وعدني احدى الطائفتين.. والله لكأني أنظر الى مصرع القوم"..
وفي غزوة أحد، وعندما تشتت المسلمون تحت وقع الباغتة الداهمة التي فاجأهم بها جيش المشركين، لم تكن العين لتخطئ مكان سعد بن معاذ..
لقد سمّر قدميه في الأرض بجوار رسول الله صلى الله عليه وسلم، يذود عنه ويدافع في استبسال هو له أهل وبه جدير..
**

وجاءت غزوة الخندق، لتتجلى رجولة سعد وبطولته تجليا باهرا ومجيدا..
وغزوة الخندق هذه، آية بينة على المكايدة المريرة الغادرة التي كان المسلمون يطاردون بها في غير هوادة، من خصوم لا يعرفون في خصومتهم عدلا ولا ذمّة..
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحيون بالمدينة في سلام يعبدون ربهم، ويتواصون بطاعته، ويرجون أن تكف قريش عن اغارتها وحروبها، اذا فريق من زعماء اليهود يخرجون خلسة الى مكة محرّضين قريشا على رسول الله، وباذلين لها الوعود والعهود أن يقفوا بجانب القرشيين اذا هم خرجوا لقتال المسلمين..
واتفقوا مع المشركين فعلا، ووضعوا معا خطة القتال والغزو..
وفي طريقهم وهم راجعون الى المدينة حرّضوا قبيلة من أكبر قبائل العرب، هي قبيلة غطفان واتفقوا مع زعمائها على الانضمام لجيش قريش..
وضعت خطة الحرب، ووظعت أدوارها.. فقريش وغطفان يهاجمان المدينة بجيش عرمرم كبير..
واليهود يقومون بدور تخريبي داخل المدينة وحولها في الوقت الذي يباغتها فيه الجيش المهاجم..
ولما علم النبي عليه الصلاة والسلام بالمؤامرة الغادرة راح يعدّ لها العدّة.. فأمر بحفر خندق حول المدينة ليعوق زحف المهاجمين.
وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة الى كعب بن أسد زعيم يهود بني قريظة، ليتبيّنا حقيقة موقف هؤلاء من الحرب المرتقبة، وكان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة عهود ومواثيق..
فلما التقى مبعوثا الرسول بزعيم بني قريظة فوجئا يقول لكم:
" ليس بيننا وبين محمد عهد ولا عقد"..!!
**

عز على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتعرض أهل المدينة لهذا الغزو المدمدم والحصار المنهك، ففكر في أن يعزل غطفان عن قريش، فينقض الجيش المهاجم بنصف عدده، ونصف قوته، وراح بالفعل يفاوض زعماء غطفان على أن ينفضوا أيديهم عن هذه الحرب، ولهم لقاء ذلك ثلث ثمار المدينة، ورضي قادة غطفان، ولم يبق الا أن يسجل الاتفاق في وثيقة ممهورة..
وعند هذا المدى من المحاولة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم اذ لم ير من حقه أن ينفرد بالأمر، فدعا اليه أصحابه رضي الله عنهم ليشاورهم..
واهتم عليه الصلاة والسلام اهتماما خاصا برأي سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة.. فهما زعيما المدينة، وهما بهذا أصحاب حق أول في مناقشة هذا الأمر، واختيار موقف تجاهه..
**

قصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما حديث التفاوض الذي جرى بينه وبين زعماء غطفان.. وأنبأهما أنه انما لجأ الى هذه المحاولة، رغبة منه في أن يبعد عن المدينة وأهلها هذا الهجوم الخطير، والحصار الرهيب..
وتقدم السعدان الى رسول الله بهذا السؤال:
" يا رسول الله..
أهذا رأي تختاره، أم وحي أمرك الله به"؟؟
قال الرسول:
" بل أمر أختاره لكم..
والله ما أصنع ذلك الا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم الى أمر ما"..
وأحسّ سعد بن معاذ أن أقدارهم كرجال ومؤمنين تواجه امتحانا، أي امتحان..
هنالك قال:
" يا رسول الله..
قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا من مدينتنا تمرة، الا قرى، أي كرما وضيفة، أ، بيعا..
أفحين أكرمنا الله بالاسلام، وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا..؟؟
والله ما لنا بهذا من حاجة..
ووالله لا نعطيهم الا السيف.. حتى يحكم الله بيننا وبينهم"..!!
وعلى الفور عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رأيه، وأنبأ زعماء غطفان أن أصحابه رفضوا مشروع المفاوضة، وأنه أقرّ رأيهم والتزم به..
**

وبعد أيام شهدت المدينة حصارا رهيبا..
والحق أنه حصار اختارته هي لنفسها أكثر مما كان مفروضا عليها، وذلك بسبب الخندق الذي حفر حولها ليكون جنّة لها ووقاية..
ولبس المسلمون لباس الحرب.
وخرج سعد بن معاذ حاملا سيفه ورمحه وهو ينشد ويقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا الجمل ما أجمل الموت اذا حان الأجل
وفي احدى الجولات تلقت ذراع سعد سهما وبيلا، قذفه به أحد المشركين..
وتفجّر الدم من وريده وأسعف سريعا اسعافا مؤقتا يرقأ به دمه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمل الى المسجد، وأن تنصب له به خيمة حتى يكون على قرب منه دائما أثناء تمريضه..
وحمل المسلمون فتاهم العظيم الى مكانه في مسجد الرسول..
ورفع سعد بصره الى السماء وقال:
" اللهم ان كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها... فانه لا قوم أحب اليّ أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه..
وان كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل ما أصابني اليوم طريقا للشهادة..
ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة"..!
**

لك الله يا سعد بن معاذ..!
فمن ذا الذي يستطيع أن يقول مثل هذا القول، في مثل هذا الموقف سواك..؟؟
ولقد استجاب الله دعاءه..
فكانت اصابته هذه طريقه الى الشهادة، اذ لقي ربه بعد شهر، متأثرا بجراحه..
ولكنه لم يمت حتى شفي صدرا من بني قريظة..
ذلك أنه بعد أن يئست قريش من اقتحام المدينة، ودبّ في صفوف جيشها الهلع، حمل الجميع متاعهم وسلاحهم، وعادوا مخذولين الى مكة..
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترك بني قريظة، يفرضون على المدينة غدرهم كما شاؤوا، أمر لم يعد من حقه أن يتسامح تجاهه..
هنالك أمر أصحابه بالسير الى بني قريظة.
وهناك حاصروهم خمسة وعشرين يوما..
ولما رأى هؤلاء ألا منجى لهم من المسلمين، استسلموا، وتقدموا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجاء أجابهم اليه، وهو أن يحكم فيهم سعد بن معاذ.. وكان سعد حليفهم في الجاهلية..
**

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه من جاؤوا بسعد بن معاذ
من مخيمه الذي كان يمرّض فيه بالمسجد..
جاء محمولا على دابة، وقد نال منه الاعياء والمرض..
وقال له الرسول:
" يا سعد احكم في بني قريظة".
وراح سعد يستعيد محاولات الغدر التي كان آخرها غزوة الخندق والتي كادت لبمدينة تهلك فيها بأهلها..
وقال سعد:
" اني أرى أن يقتل مقاتلوهم..
وتسبى ذراريهم..
وتقسّم أموالهم.."
وهكذا لم يمت سعد حتى شفي صدره من بني قريظة..
**

كان جرح سعد يزداد خطرا كل يوم، بل كل ساعة..
وذات يوم ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعيادته، فألفاه يعيش في لحظات الوداع فأخذ عليه الصلاة والسلام رأسه ووضعه في حجره، وابتهل الى الله قائلا:
" اللهم ان سعدا قد جاهد في سبيلك، وصدّق رسولك وقضى الذي عليه، فتقبّل روحه بخير ما تقبّلت به روحا"..!
وهطلت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم على الروح المودّعة بردا وسلاما..
فحاول في جهد، وفتح عينيه راجيا أن يكون وجه رسول الله آخر ما تبصرانه في الحياة وقال:
" السلام عليك يا رسول الله..
أما اني لأشهد أنك رسول الله"..
وتملى وجه النبي وجه سعد آن ذاك وقال:
" هنيئا لك يا أبا عمرو".
**

يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه:
" كنت ممن حفروا لسعد قبره..
وكنا كلما حفرنا طبقة من تراب، شممنا ريح المسك.. حتى انتهينا الى اللحد"..
وكان مصاب المسلمين في سعد عظيما..
ولكن عزاءهم كان جليلا، حين سمعوا رسولهم الكريم يقول:
" لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ"..
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[
عبدالرحمن بن أبي بكر - بطل حتى النهاية

هو صورة مبيّنة للخلق العربي بكل أعماقه، وأبعاده..
فبينما كان أبوه أول المؤمنين.. والصدّيق الذي آمن برسوله ايمانا ليس من طراز سواه.. وثاني اثنين اذ هما في الغار..كان هو صامدا كالصخر مع دين قومه، وأصنام قريش.!!
وفي غزوة بدر، خرج مقاتلا مع جيش المشركين..
وفي غزوة أحد كان كذلك على رأس الرماة الذين جنّدتهم قريش لمعركتها مع المسلمين..

وقبل أن يلتحم الجيشان، بدأت كالعادة جولة المبارزة..
ووقف عبدالرحمن يدعو اليه من المسلمين من يبارزه..
ونهض أبو أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه مندفعا نحوه ليبارزه، ولكن الرسول أمسك به وحال بينه وبين مبارزة ولده.
**

ان العربي الأصيل لا يميزه شيء مثلما يميزه ولاؤه المطلق لاقتناعه..
اذا اقتنع بدين أو فكرة استبعده اقتناعه، ولم يعد للفكاك منه سبيل، اللهمّ الا اذا ازاحه عن مكانه اقتناع جديد يملأ عقله ونفسه بلا زيف، وبلا خداع.
فعلى الرغم من اجلال عبدالرحمن أباه، وثقته الكاملة برجاحة عقله، وعظمة نفسه وخلقه، فان ولاءه لاقتناعه بقي فارضا سيادته عليه.
ولم يغره اسلام أبيه باتباعه.
وهكذا بقي واقفا مكانه، حاملا مسؤولية اقتناعه وعقيدته، يذود عن آلهة قريش، ويقاتل تحت لوائها قتال المؤمنين المستميتين..
والأقوياء الأصلاء من هذا الطراز، لا يخفى عليهم الحق وان طال المدى..
فأصالة جوهرهم، ونور وضوحهم، يهديانهم الى الصواب آخر الأمر، ويجمعانهم على الهدى والخير.
ولقد دقت ساعة الأقدار يوما، معلنة ميلادا جديدا لعبدالرحمن بن أبي بكر الصدّيق..
لقد أضاءت مصابيح الهدى نفسه فكنست منها كل ما ورثته الجاهلية من ظلام وزيف. ورأى الله الواحد الأحد في كل ما حوله من كائنات وأشياء، وغرست هداية الله ظلها في نفسه وروعه، فاذا هو من المسلمين..!
ومن فوره نهض مسافرا الى رسول الله، أوّأبا الى دينه الحق.
وتألق وجه أبي بكر تحت ضوء الغبطة وهو يبصر ولده يبايع رسول الله.
لقد كان في كفره رجلا.. وها هو ذا يسلم اليوم اسلام الرجال. فلا طمع يدفعه، ولا خوف يسوقه. وانما هو اقتناع رشيج سديد أفاءته عليه هداية الله وتوفيقه.
وانطلق عبدالرحمن يعوّض ما فاته ببذل أقصى الجهد في سبيل الله، ورسوله والمؤمنين...
**

في أيام الرسول عليه صلاة الله وسلامه، وفي أيام خلفائه من بعده، لم يتخلف عبدالرحمن عن غزو، ولم يقعد عن جهاد مشروع..
ولقد كان له يوم اليمامة بلاء عظيم، وكان لثياته واستبساله دور كبير في كسب المعركة من جيش مسيلمة والمرتدين.. بل انه هو الذي أجهز على حياة محكم بن الطفيل، والذي كان العقل المدبر لمسيلمة، كما كان يحمي بقوته أهم مواطن الحصن الذي تحصّن جيش الردّة بداخله، فلما سقط محكم بضربة من عبدالرحمن، وتشتت الذين حوله، انفتح في الحصن مدخل واسع كبير تدفقت منه مقاتلة المسلمين..
وازدادت خصال عبدالرحمن في ظل الاسلام مضاء وصقلا..
فولاؤه لاقتناعه، وتصميمه المطلق على اتباع ما يراه صوابا وحقا، ورفضه المداجاة والمداهنة...
كل هذا الخلق ظل جوهر شخصيته وجوهر حياته، لم يتخل عنه قط تحت اغراء رغبة، أو تأثير رهبة، حتى في ذلك اليوم الرهيب، يوم قرر معاوية أن يأخذ البيعة ليزيد بحد الشيف.. فكتب الى مروان عامله بالمدينة كتاب البيعة، وأمره ان يقرأه على المسلمين في المسجد..
وفعل مروان، ولم يكد يفرغ من قراءته حتى نهض عبدالرحمن بن أبي بكر ليحول الوجوم الذي ساد المسجد الى احتجاج مسموع ومقاومة صادعة فقال:
" والله ما الاخيار أردتم لأمة محمد، ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية.. كلما مات هرقل قام هرقل"..!!
لقد رأى عبدالرحمن ساعتئذ كل الأخطار التي تنتظر الاسلام لو أنجز معاوية أمره هذا، وحوّل الحكم في الاسلام من شورى تختار بها الأمة حاكمها، الى قيصرية أو كسروية تفرض على الأمة بحكم الميلاد والمصادفة قيصرا وراء قيصر..!!
**

لم يكد عبدالرحمن يصرخ في وجه مروان بهذه الكلمات القوارع، حتى أيّده فريق من المسلمين على رأسهم الحسين بن علي، وعبدالله بن الزبير، وعبدالله بن عمر..
ولقد طرأت فيما بعد ظروف قاهرة اضطرت الحسين وابن الزبير وابن عمر رضي الله عنهم الى الصمت تجاه هذه البيعة التي قرر معاوية أن يأخذها بالسيف..
لكن عبدالرحمن بن أبي بكر ظل يجهر ببطلان هذه البيعة، وبعث اليه معاوية من يحمل مائة ألف درهم، يريد أن يتألفه بها، فألقاها ابن الصدّيق بعيدا وقال لرسول معاوية:
" ارجع اليه وقل له: ان عبدالرحمن لا يبيع دينه بدنياه"..
ولما علم بعد ذلك أن معاوية يشدّ رحاله قادما الى المدينة غادرها من فوره الى مكة..
وأراد الله أن يكفيه فتنة هذا الموقف وسوء عقباه..
فلم يكد يبلغ مشارف مكة ويستقر بها حتى فاضت الى الله روحه،، وحمله الرجال على الأعناق الى أعالي مكة حيث دفن هناك، تحت ثرى الأرض التي شهدت جاهليته..
وشهدت اسلامه..!!
وكان اسلام رجل صادق، حرّ شجاع...
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[
عمران بن حصين - شبيه الملائكة

عام خيبر، أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبايعا..
ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول أصبحت يده اليمنى موضع تكريم كبير، فآلى على نفسه ألا يستخدمها الا في كل عمل طيّب، وكريم..
هذه الظاهرة تنبئ عما يتمتع به صاحبها من حسّ دقيق.
وعمران بن حصين رضي الله عنه صورة رضيّة من صور الصدق، والزهد، والورع، والتفاني وحب الله وطاعته...

وان معه من توفيق الله ونعمة الهدى لشيئا كثيرا، ومع ذلك فهو لا يفتأ يبكي، ويبكي، ويقول:
" يا ليتني كنت رمادا، تذروه الرياح"..!!
ذلك أن هؤلاء الرجال لم يكونوا يخافون الله بسبب ما يدركون من ذنب، فقلما كانت لهم بعد اسلامهم ذنوب..
انما كانوا يخافونه ويخشونه بقدر ادراكهم لعظمته وجلاله،وبقدر ادراكهم لحقيقة عجزهم عن شكره وعبادته، فمهما يضرعوا، ويركعوا، ومهما يسجدوا، ويعبدوا..
ولقد سأل أصحاب الرسول يوما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
" يا رسول الله، مالنا اذا كنا عندك رقت قلوبنا، وزهدنا دنيانا، وكأننا نرى الآخرة رأي العين.. حتى اذا خرجنا من عندك، ولقينا أهلنا، وأولادنا، ودنيانا، أنكرنا أنفسنا..؟؟"
فأجابهم عليه السلام:
" والذي نفسي بيده، لو تدومون على حالكم عندي، لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن ساعة.. وساعة.
وسمع عمران بن حصين هذا الحديث. فاشتعلت أشواقه.. وكأنما آلى على نفسه ألا يقعد دون تلك الغاية الجليلة ولو كلفته حياته، وكأنما لم تقنع همّته بأن يحيا حياته ساعة.. وساعة.. فأراد أن تكون كلها ساعة واحدة موصولة النجوى والتبتل لله رب العالمين..!!
**

وفي خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أرسله الخليفة الى البصرة ليفقه أهلها ويعلمهم.. وفي البصرة حطّ رحاله، وأقبل عليه أهلها مذ عرفوه يتبركون به، ويستضيؤن بتقواه.
قال الحسن البصري، وابن سيرين:
" ما قدم البصرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بفضل عمران بن حصين"
كان عمران يرفض أن يشغله عن الله وعبادته شاغل، استغرق في العبادة، واستوعبته العبادة حتى صار كأنه لا ينتمي الى عالم الدنيا التي يعيش فوق أرضها وبين ناسها..
أجل..
صار كأنه ملك يحيا بين الملائكة، يحادثونه ويحادثهم.. ويصافحونه ويصافحهم..
**

ولما وقع النزاع الكبير بين المسلمين، بين فريق علي وفريق معاوية، لم يقف عمران موقف الحيدة وحسب، بل راح يرفع صوته بين الناس داعيا ايّاهم أن يكفوا عن الاشتراك في تلك الحرب، حاضنا قضية الاسلام خير محتضن.. وراح يقول للناس:
" لأن أرعى أعنزا حضنيات في رأس جبل حتى يدركني الموت، أحبّ اليّ من أن أرمي في أحد الفريقين بسهم، أخطأ أم أصاب"..
وكان يوصي من يلقاه من المسلمين قائلا:
" الزم مسجدك..
فان دخل عليك، فالزم بيتك..
فان دخل عليك بيتك من يريد نفسك ومالك فقاتله"..
**

وحقق ايمان عمران بن حصين أعظم نجاح، حين أصابه مرض موجع لبث معه ثلاثين عاما، ما ضجر منه ولا قال: أفّ..
بل كان مثابرا على عبادته قائما، وقاعدا وراقدا..
وكان اذا هوّن عليه اخوانه وعوّاده أمر علته بكلمات مشجعة، ابتسم لها وقال:
" ان أحبّ الأشياء الى نفسي، أحبها الى الله"..!!
وكانت وصيته لأهله واخوانه حين أدركه الموت:
" اذا رجعتم من دفني، فانحروا وأطعموا"..

أجل لينحروا ويطعموا، فموت مؤمن مثل عمران بن حصين ليس موتا، انما هو حف زفاف عظيم، ومجيد، تزف فيه روح عالية راضية الى جنّة عرضها السموات والأرض أعدّت للمتقين
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:32 pm

أسيد بن خضير - بطل يوم السقيفة

ورث المكارم كابرا عن كابر..

فأبوه خضير الكتائب كان زعيم الأوس، وكان واحدا من كبار أشراف العرب في الجاهلية، ومقاتليهم الأشداء..
وفيه يقول الشاعر:
لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة
لهبن خضيرا يوم غلّق واقما
يطوف به، حتى اذا الليل جنّه
تبوأ منه مقعدا متناغما
وورث أسيد عن أبيه مكانته، وشجاعته وجوده، فكان قبل أن يسلم، واحدا من زعماء المدينة وأشراف العرب، ورماتها الأفذاذ..

فلما اصطفاه الاسلام، وهدي الى صراط العزيز الحميد، تناهى عزه.
وتسامى شرفه، يوم أخذ مكانه، وأخذ واحدا من انصار الله وأنصار رسوله، ومن السابقين الى الاسلام العظيم..
**

ولقد كان اسلامه يوم أسلم سريعا، وحاسما وشريفا..
فعندما أرسل الرسول عليه السلام مصعب بن عمير الى المدينة ليعلم ويفقه المسلمين من الأنصار الذين بايعوا النبي عليه السلام عل الاسلام بيعة العقبة الأولى، وليدعو غيرهم الى دين الله.
يومئذ، جلس أسيد بن خضير، وسعد بن معاذ، وكانا زعيمي قومهما، يتشاوران في أمر هذا الغريب الذي جاء من مكة يسفّه دينهما، ويدعو الى دين جديد لا يعرفونه..
وقال سعد لأسيد:" انطلق الى هذا الرجل فازجره"..
وحمل أسيد حربته، وأغذ السير الى حيث كان مصعب في ضيافة أسعد بن زرارة من زعماء المدينة الذين سبقوا الى الاسلام.
وعند مجلس مصعب وأسعد بن زرارة رأى أسيد جمهرة من الناس تصغي في اهتمام للكلمات الرشيدة التي يدعوهم بها الى الله، مصعب بن عمير..
وفجأهم أسيد بغضبه وثورته..
وقال له مصعب:
" هل لك في أن تجلس فتسمع.. فان رضيت أمرنا قبلته، و ان كرهته، كففنا عنك ما تكره"..؟؟
**

كان أسيد رجلا.. وكان مستنير العقل ذكيّ القلب حتى لقبه أهل المدينة بالكامل.. وهو لقب كان يحمله أبوه من قبله..
فلما رأى مصعبا يحتكم به الى المنطق والعقل، غرس حربته في الأرض، وقال لمصعب:
لقد أنصفت: هات ما عندك..
وراح مصعب يقرأ عليه من القرآن، ويفسّر له دعوة الدين الجديد. الدين الحق الذي أمر محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغه ونشر رايته.
ويقول الذين حضروا هذا المجلس:
" والله لقد عرفنا في وجه أسيد الاسلام قبل أن يتكلم..
عرفناه في اشراقه وتسهّله"..!!
**

لم يكد مصعب ينتهي من حديثه حتى صاح أسيد مبهورا:
" ما أحسن هذا الكلام وأجمله..
كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين".؟
قال له مصعب:
" تطهر بدنك، وثوبك، وتشهد شهادة الحق، ثم تصلي"..
ان شخصية أسيد شخصية مستقيمة قوية مستقيمة وناصعة، وهي اذ تعرف طريقها ، لا تتردد لحظة أمام ارادتها الحازمة..
ومن ثمّ، قام أسيد في غير ارجاء ولا ابطاء ليستقبل الدين الذي انفتح له قلبه، وأشرقت به روحه، فاغتسل وتطهر، ثم سجد لله رب العالمين، معلنا اسلامه، مودّعا أيام وثنيّته، وجاهليته..!!
كان على أسيد أن يعود لسعد بن معاذ، لينقل اليه أخبار المهمة التي كلفه بها.. مهمة زجر مصعب بن عمير واخراجه..
وعاد الى سعد..
وما كاد يقترب من مجلسه، حتى قال سعد لمن حوله:
" أقسم لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به".!!
أجل..
لقد ذهب بوجه طافح بالمرارة، والغضب والتحدي..
وعاد بوجه تغشاه السكينة والرحمة والنور..!!
**

وقرر أسيد أن يستخدم ذكاءه قليلا..
انه يعرف أن سعد بن معاذ مثله تماما في صفاء جوهره ومضاء عزمه، وسلامة تفكيره وتقديره..
ويعلم أنه ليس بينه وبين الاسلام سوى أن يسمع ما سمع هو من كلام الله، الذي يحسن ترتيله وتفسيره سفير الرسول اليهم مصعب بن عمير..
لكنه لو قال لسعد: اني أسلمت، فقم وأسلم، لكانت مجابهة غير مأمونة العاقبة..
اذن فعليه أن يثير حميّة سعد بطريقة تدفعه الى مجلس مصعب حتى يسمع ويرى..
فكيف السبيل لهذا..؟
كان مصعب كما ذكرنا من قبل ينزل ضيفا على أسعد بن زرارة..
وأسعد بن زرارة هو ابن خالة سعد بن معاذ..
هنالك قال أسيد لسعد:
" لقد حدّثت أن بين الحارثة قد خرجوا الى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وهم يعلمون أنه ابن خالتك"..
وقام سعد، تقوده الحميّة والغضب، وأخذ الحربة، وسار مسرعا الى حيث أسعد ومصعب، ومن معهما من المسلمين..
ولما اقترب من المجلس لو يجد ضوضاء ولا لغطا، وانما هي السكينة تغشى جماعة يتوسطهم مصعب بن عمير، يتلو آيات الله في خشوع، وهم يصغون اليه في اهتمام عظيم..
هنالك أدرك الحيلة التي نسجها له أسيد لكي يحمله على السعي الى هذا المجلس، والقاء السمع لما يقوله سفير الاسلام مصعب بن عمير.
ولقد صدقت فراسة أسيد في صاحبه، فما كاد سعد يسمع حتى شرح الله صدره للاسلام، وأخذ مكانه في سرعة الضوء بين المؤمنين السابقين..!!
**

كان أسيد يحمل في قلبه ايمانا وثيقا ومضيئا..
وكان ايمانه بفيء عليه من الأناة والحلم وسلامة التقدير ما يجعله أهلا للثقة دوما..
وفي غزوة بني المصطلق تحركت مغايظ عبدالله بن أبيّ فقال لمن حوله من أهل المدينة:
" لقد أحللتمومهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم..
أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا الى غير دياركم..
أما والله لئن رجعنا الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل"..
سمع الصحابي الجليل زيد بن الأرقم هذه الكلمات، بل هذه السموم المنافقة المسعورة، فكان حقا عليه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا، وقابله أسيد فقال له النبي عليه السلام:
أوما بلغك ما قال صاحبكم..؟؟
قال أسيد:
وأيّ صاحب يا رسول الله..؟؟
قال الرسول:
عبدالله بن أبيّ!!
قال أسيد:
وماذا قال..؟؟
قال الرسول:
زعم انه ان رجع الى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل.
قال أسيد:
فأنت والله، يا رسول الله، تخرجه منها ان شاء الله.. هو والله الذليل، وأنت العزيز..
ثم قال أسيد:
" يا رسول الله ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه على المدينة ملكا، فهو يرى أن الاسلام قد سلبه ملكا"..
بهذا التفكير الهادئ العميق المتزن الواضح، كان أسيد دائما يعالج القضايا ببديهة حاضرة وثاقبة..

وفي يوم السقيفة، اثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلن فريق من الأنصار، وعلى رأسهم سعد بن عبادة أحقيتهم بالخلافة، وطال الحوار، واحتدمت المناقشة، كان موقف أسيد، وهو كما عرفنا زعيم أنصاري كبير، كان موقفه فعالا في حسم الموقف، وكانت كلماته كفلق الصبح في تحديد الاتجاهه..
وقف أسيد فقال مخاطبا فريق الأنصار من قومه:
" تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من المهاجرين..
فخليفته اذن ينبغي أن يكون من المهاجرين..
ولقد كنا أنصار رسول الله..
وعلينا اليوم أن نكون أنصار خليفته"..
وكانت كلماته، بردا، وسلاما..
**

ولقد عاش أسيد بن خضير رضي الله عنه عابدا، قانتا، باذلا روحه وماله في سبيل الخير، جاعلا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار نصب عينيه:
" اصبروا.. حتى تلقوني على الحوض"..
ولقد كان لدينه وخلقه موضع تكريم الصدّيق حبّه، كذلك كانت له نفس المكانة والمنزلة في قلب أمير المؤمنين عمر، وفي أفئدة الصحابة جميعا.
وكان الاستماع لصوته وهو يرتل القرآن احدى المغانم الكبرى التي يحرص الأصحاب عليها..
ذلك الصوت الخاشع الباهر المنير الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم أن الملائكة دنت من صاحبه ذات ليلة لسماعه..
وفي شهر شعبان عام عشرين للهجرة، مات أسيد..
وأبى أمير المؤمنين عمر الا أن يحمل نعشه فوق كتفه..
وتحت ثرى البقيع وارى الأصحاب جثمان مؤمن عظيم..
وعادوا الى المدينة وهم يستذكرون مناقبه ويرددون قول الرسول الكريم عنه:
" نعم الرجل.. أسيد بن خضير"..
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[

عمرو بن الجموح - أريد أن أخطر بعرجتي في الجنة

انه صهر عبدالله بن حرام، اذ كان زوجا لأخته هند بن عمرو..
وكان ابن الجموح واحدا من زعماء المدينة، وسيدا من سادات بني سلمة..
سبقه الى الاسلام ابنه معاذ بن عمرو الذي كان أحد الأنصار السبعين، أصحاب البيعة الثانية..
وكان معاذ بن عمرو وصديقه معاذ بن جبل يدعوان للاسلام بين أهل المدينة في حماسة الشباب المؤمن الجريء..
وكان من عادة الناس هناك أن بتخذ الأشراف من بيوتهم أصناما رمزية غير تلك الأصنام الكبيرة المنصوبة في محافلها، والتي تؤمّها جموع الناس..

وعمرو بن الجموح مع صديقه معاذ بن جبل على أن يجعلا من صنم عمرو بن جموح سخرية ولعبا..
فكانا يدلجان عليه ليلا، ثم يحملانه ويطرحانه في حفرة يطرح الناس فيه فضلاتهم..
ويصيح عمرو فلا يجد منافا في مكانه، ويبحث عنه حتى يجده طريح تلك الحفرة.. فيثور ويقول:
ويلكم من عدا على آلهتنا الليلة..!؟
ثم يغسله ويطهره ويطيّبه..
فاذا جاء ليل جديد، صنع المعاذان معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل بالصنم مثل ما يفعلان به كل ليلة.
حتى اذا سئم عمرو جاء بسيفه ووضعه في عنق مناف وقال له: ان كان فيك خير فدافع عن نفسك..!!
فلما اصبح فلم يجده مكانه.. بل وجده في الحفرة ذاتها طريحا، بيد أن هذه المرة لم يكن في حفرته وحيدا، بل كان مشدودا مع كلب ميت في حبل وثيق.
واذا هو في غضبه، وأسفه ودهشه، اقترب منه بعض أشراف المدينة الذين كانوا قد سبقوا الى الاسلام.. وراحوا، وهم يشيرون بأصابعهم الى الصنم المنكّس المقرون بكلب ميت، يخاطبون في عمرو بن الجموح عقله وقلبه ورشده، محدثينه عن الاله الحق، العلي الأعلى، الذي ليس كمثله شيء.
وعن محمد الصادق الأمين، الذي جاء الحياة ليعطي لا ليأخذ.. ليهدي، لا ليضل..
وعن الاسلام، الذي جاء يحرر البشر من الأعلال، جميع الأغلل، وجاء يحيى فيهم روح الله وينشر في قلوبهم نوره.
وفي لحظات وجد عمرو نفسه ومصيره..
وفي لحظات ذهب فطهر ثوبه، وبدنه.. ثم تطيّب وتأنق، وتألق، وذهب عالي الجبهة مشرق النفس، ليبايع خاتم المرسلين، وليأخذ مكانه مع المؤمنين.
**

قد يسأل سائل نفسه، كيف كان رجال من أمثال عمرو بن الجموح.. وهم زعماء قومهم وأشراف.. كيف كانوا يؤمنون بأصنام هازلة كل هذا الايمان..؟
وكيف لم تعصمهم عقولهم عن مثل هذا الهراء.. وكيف نعدّهم اليوم، حتى مع اسلامهم وتضحياتهم، من عظماء الرجال..؟
ومثل هذا السؤال يبدو ايراده سهلا في أيامنا هذه حيث لا نجد طفلا يسيغ عقله أن ينصب في بيته خشبة ثم يعبدها..
لكن في أيام خلت، كانت عواطف البشر تتسع لمثل هذا الصنيع دون أن يكون لذكائهم ونبوغهم حيلة تجاه تلك التقاليد..!!
وحسبنا لهذا مثلا أثينا..
أثينا في عصر باركليز وفيتاغورس وسقراط..
أثينا التي كانت قد بلغت رقيّا فكريا يبهر الأباب، كان أهلها جميعا: فلاسفة، وحكاما، وجماهير يؤمنون بأصنام منحوتة تناهي في البلاهة والسخرية!!
ذلك أن الوجدان الديني في تلك العصور البعيدة، لم يكن يسير في خط مواز للتفوق العقلي...
**

أسلم عمرو بن الجموح قلبه، وحياته لله رب العالمين، وعلى الرغم من أنه كان مفطورا على الجود والسخاء، فان الاسلام زاد جوده مضاء، فوضع كل ماله في خدمة دينه واخوانه..
سأل الرسول عليه الصلاة والسلام جماعة من بني سلمة قبيلة عمرو بن الجموح فقال:
من سيّدكم يا بني سلمة..؟
قالوا: الجدّ بن قيس، على بخل فيه..
فقال عليه الصلاة والسلام:
وأي داء أدوى من البخل!!
بل سيّدكم الجعد الأبيض، عمرو بن الجموح..
فكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تكريما لابن الجموح، أي تكريم..!
وفي هذا قال شاعر الأنصار:
فسوّد عمرو بن الجموح لجوده
وحق لعمرو بالنّدى أن يسوّدا
اذا جاءه السؤال أذهب ماله
وقال: خذوه، انه عائد غدا
وبمثل ما كان عمرو بن الجموح يجود بماله في سبيل الله، أراد أن يجود بروحه وبحياته..
ولكن كيف السبيل؟؟
ان في ساقه عرجا يجعله غير صالح للاشتراك في قتال.
وانه له أربعة أولاد، كلهم مسلمون، وكلهم رجال كالأسود، كانوا يخرجون مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزو، ويثابرون على فريضة الجهاد..
ولقد حاول عمرو أن يخرج في غزوة بدر فتوسّل أبناؤه الى النبي صلى الله عليه وسلم كي يقنعه بعدم الخروج، أ، يأمره به اذا هو لم يقتنع..
وفعلا، أخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن الاسلام يعفيه من الجهاد كفريضة، وذلك لعجزه الماثل في عرجه الشديد..
بيد أنه راح يلحّ ويرجو.. فأمره الرسول بالبقاء في المدينة.
**

وجاءت غزوة أحد فذهب عمرو الى النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل اليه أن يأذن له وقال له:
" يا رسول الله انّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك الى الجهاد..
ووالله اني لأرجو أن، أخطر، بعرجتي هذه في الجنة"..
وأمام اصراره العظيم أذن له النبي عليه السلام بالخروج، فأخذ سلاحه، وانطلق يخطر في حبور وغبطة، ودعا ربه بصوت ضارع:
" اللهم ارزقني الشهادة ولا تردّني الى أهلي".
والتقى الجمعان يوم أحد..
وانطلق عمرو بن الجموح وأبناؤه الأربعة يضربون بسيوفهم جيوش الشرك والظلام..
كان عمرو بن الجموح يخطر وسط المعمعة الصاحبة، ومع كل خطرة يقطف سيفه رأسا من رؤوس الوثنية..
كان يضرب الضربة بيمينه، ثم يلتفت حواليه في الأفق الأعلى، كأنه يتعجل قدوم الملاك الذي سيقبض روحه، ثم يصحبها الى الجنة..
أجل.. فلقد سأل ربه الشهادة، وهو واثق أن الله سبحانه وتعالى قد استجاب له..
وهو مغرم بأن يخطر بساقه العرجاء في الجنة ليعلم أهلها أن محمدا رسول اله صلى الله عليه وسلم، يعرف كيف يختار الأصحاب، وكيف يربّي الرجال..!!
**

وجاء ما كان ينتظر.
ضربةسيف أومضت، معلنة ساعة الزفاف..
زفاف شهيد مجيد الى جنات الخلد، وفردوس الرحمن..!!
**

واذ كان المسلمون يدفنون شهداءهم قال الرسول عليه الصلاة والسلام أمره الذي سمعناه من قبل:
" انظروا، فاجعلوا عبدالله بن عمرو بن حرام وعمرو بن الجموح في قبر واحد، فانهما كانا في الدنيا متحابين متصافيين"..!!
**

ودفن الحبيبان الشهيدان الصديقان في قبر واحد، تحت ثرى الأرض التي تلقت جثمانيهما الطاهرين، بعد أن شهدت بطولتهما الخارقة.
وبعد مضي ست وأربعين سنة على دفنهما، نزل سيل شديد غطّى أرض القبور، بسبب عين من الماء أجراها هناك معاوية، فسارع المسلمون الى نقل رفات الشهداء، فاذا هم كما وصفهم الذين اشتركوا في نقل رفاتهم:
" ليّنة أجسادهم..
تتثنى أطرافهم"..!

وكان جابر بن عبدالله لا يزال حيا، فذهب مع أهله لينقل رفات أبيه عبدالله بن عمرو بن حرام، ورفات زوج عمته عمرو بن الجموح..
فوجدهما في قبرهما، كأنهما نائمان.. لم تأكل الأرض منهما شيئا، ولم تفارق شفاههما بسمة الرضا والغبطة التي كانت يوم دعيا للقاء الله..
أتعجبون..؟
كلا، لا تعجبوا..
فان الأرواح الكبيرة، التقية، النقية، التي سيطرت على مصيرها.. تترك في الأجساد التي كانت موئلا لها، قدرا من المناعة يدرأ عنها عوامل التحلل، وسطوة التراب
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:40 pm

الطفيل بن عمرو الدوسي - الفطرة الراشدة

في أرض دوس نشأ بين أسرة شريفة كريمة..

وأوتي موهبة الشعر، فطار بين القبائل صيته ونبوغه..
وفي مواسم عكاظ حيث يأتي الشعراء العرب من كل فج ويحتشدون ويتباهون بشعرائهم، كان الطفيل يأخذ مكانه في المقدمة..

كما كان يتردد على مكة كثيرا في غير مواسم عكاظ..
وذات مرة كان يزورها، وقد شرع الرسول يجهر بدعوته..
وخشيت قريش أن يلقاه الطفيل ويسلم، ثم يضع موهبته الشعرية في خدمة الاسلام، فتكون الطامة على قريش وأصنامها..

من أجل ذلك أحاطوا به.. وهيئوا له من الضيافة كل أسباب الترف والبهجة والنعيم، ثم راحوا يحذرونه لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون له:
" ان له قولا كالسحر، يفرّق بين الرجل وابيه.. والرجل وأخيه.. والرجل وزوجته.. ونا نخشى عليك وعلى قومك منه، فلا تكلمه ولا تسمع منه حديثا"..!!
ولنصغ للطفيل ذاته يروي لنا بقية النبأ فيقول:
" فوالله ما زالوا بي حتى عزمت ألا أسمع منه شيئا ولا ألقاه..
وحين غدوت الى الكعبة حشوت أذنيّ كرسفا كي لا أسمع شيئا من قوله اذا هو تحدث..
وهناك وجدته قائما يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبي الله الا أن يسمعني بعض ما يقرأ، فسمعت كلاما حسنا..
وقلت لنفسي: واثكل أمي.. والله اني لرجل لبيب شاعر، لا يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من الرجل ما يقول، فان كان الذي يأتي به حسن قبلته، وان كان قبيحارفضته.
ومكثت حتى انصرف الى بيته، فاتبعته حتى دخل بيته، فدخلت وراءه، وقلت له: يا محمد، ان قومك قد حدثوني عنك كذا وكذا.. فوالله ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك..
ولكن الله شاء أن أسمع، فسمعت قولا حسنا، فاعرض عليّ أمرك..
فعرض الرسول عليّ الاسلام، وتلا عليّ من القرآن..
فأسلمت، وشهدت شهادة الحق، وقلت: يا رسول الله: اني امرؤ مطاع في قومي واني راجع اليهم، وداعيهم الى الاسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون عونا لي فيما أدعهوهم اليه، فقال عليه السلام: اللهم اجعل له آية"..
**

لقد أثنى الله تعالى في كتابه على " الذين يسمعون القول فيتبعون أحسنه"..
وها نحن أولاء نلتقي بواحد من هؤلاء..
انه صورة صادقة من صور الفطرة الرشيدة..
فما كاد سمعه يلتقط بعض آيات الرشد والخير التي أنزلها الله على فؤاد رسوله، حتى تفتح كل سمعه، وكل قلبه. وحتى بسط يمينه مبايعا.. ليس ذلك فحسب.. بل حمّل نفسه من فوره مسؤولية دعوة قومه وأهله الى هذا الدين الحق، والصراط المستقيم..!

من أجل هذا، نراه لا يكاد يبلغ بلده وداره في أرض دوس حتى يواجه أباه بالذي من قلبه من عقيدة واصرار، ويدعو أباه الى الاسلام بعد أن حدّثه عن الرسول الذي يدعو الى الله.. حدثه عن عظمته.. وعن طهره وأمانته.. عن اخلاصه واخباته لله رب العالمين..
وأسلم أبوه في الحال..
ثم انتقل الى أمه، فأسلمت
ثم الى زوجه، فأسلمت..
ولما اطمأن الى أن الاسلام قد غمر بيته، انتقل الى عشيرته، والى أهل دوس جميعا.. فلم يسلم منهم أحد سوى أبي هريرة رضي الله عنه..
ولقد راحوا يخذلونه، وينأون عنه، حتى نفذ صبره معهم وعليهم. فركب راحلته، وقطع الفيافي عائدا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو اليه ويتزوّد منه بتعاليمه..
وحين نزل مكة، سارع الى دار الرسول تحدوه أشواقه..
وقال للنبي:
" يا رسول الله..
انه ق غلبني على دوس الزنى، والربا، فادع الله أن يهلك دوسا"..!!
وكانت مفاجأة أذهلت الطفيل حين رأى الرسول يرفع كفيه الى السماء وهو يقول:
" اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!
ثم التفت الى الطفيل وقال له:
" ارجع الى قومك فادعهم وارفق بهم".

ملأ هذا المشهد نفس الطفيل روعة، وملأ روحه سلاما، وحمد اله أبلغ الحمد أن جعل هذا الرسول الانسان الرحيم معلمه وأستاذه. وأن جعل الاسلام دينه وملاذه.
ونهض عائدا الى أرضه وقومه وهناك راح يدعوهم الى الاسلام في أناة ورفق، كما أوصاه الرسول عليه السلام.
وخلال الفترة التي قضاها بين قومه، كان الرسول قد هاجر الى المدينة وكانت قد وقعت غزوة بدر، أحد والخندق.
وبينما رسول الله في خيبر بعد أن فتحها الله على المسلمين اذا موكب حافل ينتظم ثمانين اسرة من دوس أقبلوا على الرسول مهللين مكبّرين ..
وبينما جلسوا يبايعون تباعا..
ولما فرغوا من مشهدهم الحافل، وبيعتهم المباركة جلس الطفيل بن عمرو مع نفسه يسترجع ذكرياته ويتأمل خطاه على الطريق..!!
تذكر يوم قدوم الرسول يسأله أن يرفع كفيه الى السماء ويقول:
اللهم اهلك دوسا، فاذا هو يبتهل بدعاء آخر أثار يومئذ عجبه..
ذلك هو:
" اللهم اهد دوسا وأت بهم مسلمين"..!!
ولقد هدى الله دوسا..
وجاء بهم مسلمين..
وها هم أولاء.. ثمانون بيتا، وعائلة منهم، يشكلون أكثرية أهلها، يأخذون مكانهم في الصفوف الطاهرة خلف رسول الله الأمين.
**

ويواصل الطفيل عمله مع الجماعة المؤمنة..
ويوم فتح مكة، كان يدخلها مع عشرة آلاف مسلم لا يثنون أعطافهم زهوا وصلفا، بل يحنون جباههم في خشوع واذلال، شكرا لله الذي أثابهم فتحا قريبا، ونصرا مبينا..
ورأى الطفيل رسول الله وهو يهدم أصنام الكعبة، ويطهرها بيده من ذلك الرجس الذي طال مداه..
وتذكر الدوسي من فوره صنما كان لعمرو بن حممة. طالما كان عمرو هذا يصطحبه اليه حين ينزل ضيافته، فيتخشّع بين يديه، ويتضرّع اليه..!!
الآن حانت الفرصة ليمحو الطفيل عن نفسه اثم تلك الأيام.. هنالك تقدم من الرسول عليه الصلاة والسلام يستأذنه في أن يذهب ليحرق صنم عمرو بن حممة وكان هذا الصنم يدعى، ذا الكفين، وأذن له النبي عليه السلام..
ويذهب الطفيل ويوقد عليه النار.. وكلما خبت زادها ضراما وهو ينشد ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبّادكا
ميلادنا أقدم من ميلادكا!!
اني حشوت النار في فؤادكا

وهكذا عاش مع النبي يصلي وراءه، ويتعلم منه، ويغزو معه.
وينتقل الرسول الى الرفيق الأعلى، فيرى الطفيل أن مسؤوليته كمسلم لم تنته بموت الرسول، بل انها لتكاد تبدأ..
وهكذا لم تكد حروب الردة تنشب حتى كان الطفيل يشمّر لها عن ساعد وساق، وحتى كان يخوض غمراتها وأهوالها في حنان مشتاق الى الشهادة..
اشترك في حروب الردة حربا.. حربا..
وفي موقعة اليمامة خرج مع المسلمين مصطحبا معه ابنه عمرو بن الطفيل".
ومع بدء المعركة راح يوضي ابنه أن يقاتل جيش مسيلمة الكذاب قتال من يريد الموت والشهادة..
وأنبأه أنه يحس أنه سيموت في هذه المعركة.
وهكذا حمل سيفه وخاض القتال في تفان مجيد..
لم يكن يدافع بسيفه عن حياته.
بل كان يدافع بحياته عن سيفه.
حتى اذا مات وسقط جسده، بقي السيف سليما مرهفا لتضرب به يد أخرى لم يسقط صاحبها بعد..!!
وفي تلك الموقعة استشهد الطفيل الدوسي رضي الله عنه..
وهو جسده تحت وقع الطعان، وهو يلوّح لابنه الذي لم يكن يراه وسط الزحام..!!
يلوّح له وكأنه يهيب به ليتبعه ويلحق به..
ولقد لحق به فعلا.. ولكن بعد حين..
ففي موقعة اليرموك بالشام خرج عمرو بن الطفيل مجاهدا وقضى نحبه شهيدا..
وكان وهو يجود بأنفاسه، يبسط ذراعه اليمنى ويفتح كفه، كما لو كان سيصافح بها أحدا.. ومن يدري..؟؟
لعله ساعتئذ كان يصافح روح أبيه..!!
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[

سلمان الفارسي - الباحث عن الحقيقة

من بلاد فارس، يجيء البطل هذه المرة..
ومن بلاد فارس، عانق الاسلام مؤمنون كثيرون فيما بعد، فجعل منهم أفذادا لا يلحقون في الايمان، وفي العلم.. في الدين، وفي الدنيا..

وانها لاحدى روائع الاسلام وعظمائه، ألا يدخل بلدا من بلاد الله اا ويثير في اعجاز باهر، كل نبوغها ويحرّ: كل طاقاتها، ويحرج خبء العبقرية المستكنّة في أهلها وذويها.. فاذا الفلاسفة المسلمون.. والأطباء المسلمون.. والفقهاء المسلمون.. والفلكيون المسلمون.. والمخترعون المسلمون.. وعلماء الرياضة المسلمون..
واذا بهم يبزغون من كل أفق، ويطلعون من كل بلد، حتى تزدحم عصور الاسلام الأولى بعبقريات هائلة في كل مجالات العقل، والارادة، والضمير.. أوطانهم شتى، ودينهم واحد..!!
ولقد تنبأ الرسول عليه السلام بهذا المد المبارك لدينه.. لا، بل وعد به وعد صدق من ربه الكبير العليم.. ولقد زوي له الزمان والمكان ذات يوم ورأى رأي العين راية الاسلام تخفق فوق مدائن الأرض، وقصور أربابها..
وكان سلمان الفارسي شاهدا.. وكان له بما حدث علاقة وثقى.

كان ذلك يوم الخندق. في السنة الخامسة للهجرة. اذ خرج نفر من زعماء اليهود قاصدين مكة، مؤلبين المشركين ومحزّبين الأحزاب على رسول الله والمسلمين، متعاهدين معهم على أن يعاونوهم في حرب حاسمة تستأصل شأفة هذا الدين الجديد.
ووضعت خطة الحرب الغادرة، على أن يهجم جيش قريش وغطفان "المدينة" من خارجها، بينما يهاجم بنو قريظة من الداخل، ومن وراء صفوف المسلمين، الذين سيقعون آنئذ بين شقّى رحى تطحنهم، وتجعلهم ذكرى..!
وفوجىء الرسول والمسلمون يوما بجيش لجب يقترب من المدينة في عدة متفوقة وعتاد مدمدم.
وسقط في أيدي المسلمين، وكاد صوابهم يطير من هول المباغتة.
وصوّر القرآن الموقف، فقال الله تعالى:
(اذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا).

أربعة وعشرون ألف مقاتل تحت قيادة أبي سفيان وعيينة بن حصن يقتربون من المدينة ليطوقوها وليبطشوا بطشتهم الحاسمة كي ينتهوا من محمد ودينه، وأصحابه..
وهذا الجيش لا يمثل قريشا وحدها.. بل ومعها كل القبائل والمصالح التي رأت في الاسلام خطرا عليها.
انها محاولة أخيرة وحاسمة يقوم بها جميع أعداء الرسول: أفرادا، وجماعات، وقبائل، ومصالح..
ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب..
وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر..
وطبعا، أجمعوا على الدفاع والقتال.. ولكن كيف الدفاع؟؟
هنالك تقدم الرجل الطويل الساقين، الغزير الشعر، الذي كان الرسول يحمل له حبا عظيما، واحتراما كبيرا.

تقدّم سلمان الفارسي وألأقى من فوق هضبة عالية، نظرة فاحصة على المدينة، فألفاها محصنة بالجبال والصخور المحيطة بها.. بيد أن هناك فجوة واسعة، ومهيأة، يستطيع الجيش أن يقتحم منها الحمى في يسر.
وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدع القتال، فتقدم للرسول صلى الله عليه وسلم بمقترحه الذي لم تعهده العرب من قبل في حروبها.. وكان عبارة عن حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة.
والله يعلم ، ماذا كان المصير الذي كان ينتظر المسلمين في تلك الغزوة لو لم يحفروا الخندق الذي لم تكد قريش تراه حتى دوختها المفاجأة، وظلت قواتها جاثمة في خيامها شهرا وهي عاجزة عن اقتحام المدينة، حتى أرسل الله تعالى عليها ذات ليلة ريح صرصر عاتية اقتلعت خيامها، وبدّدت شملها..
ونادى أبو سفيان في جنوده آمرا بالرحيل الى حيث جاءوا.. فلولا يائسة منهوكة..!!
**


خلال حفر الخندق كان سلمان يأخذ مكانه مع المسلمين وهم يحفرون ويدأبون.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يحمل معوله ويضرب معهم. وفي الرقعة التي يعمل فيها سلمان مع فريقه وصحبه، اعترضت معولهم صخور عاتية..
كان سلمان قوي البنية شديد الأسر، وكانت ضربة واحدة من ساعده الوثيق تفلق الصخر وتنشره شظايا، ولكنه وقف أمام هذه الصخرة عاجزا.. وتواصى عليها بمن معه جميعا فزادتهم رهقا..!!
وذهب سلمان الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذنه في أن يغيّروا مجرى الحفر تفاديا لتلك الصخرة العنيدة المتحدية.
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام مع سلمان يعاين بنفسه المكان والصخرة..
وحين رآها دعا بمعول، وطلب من أصحابه أن يبتعدوا قليلاعن مرمى الشظايا..
وسمّى بالله، ورفع كلتا يديه الشريفتين القابضتين على المعول في عزم وقوة، وهوى به على الصخرة، فاذا بها تنثلم، ويخرج من ثنايا صدعها الكبير وهجا عاليا مضيئا.
ويقول سلمان لقد رأيته يضيء ما بين لا بتيها، أي يضيء جوانب المدينة.. وهتف رسول الله صلى الله عليه وسلم مكبرا:
"الله أكبر..أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وان أمتي ظاهرة عليها"..

ثم رفع المعول، وهوت ضربته الثانية، فتكررت لظاهرة، وبرقت الصخرة المتصدعة بوهج مضيء مرتفع، وهلل الرسول عليه السلام مكبرا:
"الله أكبر.. أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضار لي منها قصورها الحمراء، وان أمتيظاهرة عليها".

ثم ضري ضربته الثالثة فألقت الصخرة سلامها واستسلامها، وأضاء برقها الشديد الباهر، وهلل الرسول وهلل المسلمون معه.. وأنبأهم أنه يبصر الآن قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض التي ستخفق فوقها راية الله يوما، وصاح المسلمون في ايمان عظيم:
هذا ما وعدنا الله ورسوله.ز
وصدق الله ورسوله..!!

كان سلمان صاحب المشورة بحفر الخندق.. وكان صاحب الصخرة التي تفجرت منها بعض أسرار الغيب والمصير، حين استعان عليها برسول الله صلى الله عيه وسلم، وكان قائما الى جوار الرسول يرى الضوء، ويسمع البشرى.. ولقد عاش حتى رأى البشرى حقيقة يعيشها، وواقعا يحياه، فرأى مداءن الفرس والروم..
رأى قصور صنعاء وسوريا ومصر والعراق..
رأى جنبات الأرض كلها تهتز بالدوي المبارك الذي ينطلق من ربا المآذن العالية في كل مكان مشعا أنوار الهدى والخير..!!
**


وها هو ذا، جالس هناك تحت ظل الشجرة الوارفة الملتفة أما داره "بالمدائن" يحدث جلساءه عن مغامرته العظمى في سبيل الحقيقة، ويقص عليهم كيف غادر دين قومه الفرس الى المسيحية، ثم الى الاسلام..
كيف غادر ثراء أبيه الباذخ، ورمى نفسه في أحضان الفاقة، بحثا عن خلاص عقله وروحه..!!!
كيف بيع في سوق الرقيق، وهو في طريق بحثه عن الحقيقة..؟؟
كيف التقى بالرسول عليه الصلاة والسلام.. وكيف آمن به..؟؟
تعالوا نقترب من مجلسه الجليل، ونصغ الى النبأ الباهر الذي يرويه..
**

[كنت رجلا من أهل أصبهان، من قرية يقال لها "جي"..
وكان أبي دهقان أرضه.
وكنت من أحب عباد الله اليه..
وقد اجتهدت في المجوسية، حتى كنت قاطن النار التي نوقدها، ولا نتركها نخبو..
وكان لأبي ضيعة، أرسلني اليها يوما، فخرجت، فمررت بكنيسة للنصارى، فسمهتهم يصلون، فدخلت عليهم أنظر ما يصنعون، فأعجبني ما رأيت من صلاتهم، وقلت لنفسي هذا خير من ديننا الذي نحن عليه، فما برحتهم حتى غابت الشمس، ولا ذهبت الى ضيعة أبي، ولا رجعت اليه حتى بعث في أثري...
وسألت النصارى حين أعجبني أمرهم و صلاتهم عن أصل دينهم، فقالوا في الشام..
وقلت لأبي حين عدت اليه: اني مررت على قوم يصلون في كنيسة لهم فأعجبتني صلاتهم، ورأيت أن دينهم خير من ديننا..
فحازرني وحاورته.. ثم جعل في رجلي حديدا وحبسني..
وأرسلت الى النصارى أخبرهم أني دخلت في دينهم وسألتهم اذا قدم عليهم ركب من الشام، أن يخبروني قبل عودتهم اليها لأرحل الى الشام معهم، وقد فعلوا، فحطمت الحديد وخرجت، وانطلقت معهم الى الشام..
وهناك سألت عن عالمهم، فقيل لي هو الأسقف، صاحب الكنيسة، فأتيته وأخبرته خبري، فأقمت معه أخدم، وأصلي وأتعلم..
وكان هذا الأسقف رجل سوء في دينه، اذ كان يجمع الصدقات من الانس ليوزعها، ثم يكتنزها لنفسه.
ثم مات..
وجاءوا بآخر فجعلوه مكانه، فما رأيت رجلا على دينهم خيرا منه، ولا أعظم منه رغبة في الآخرة، وزهدا في الدنيا ودأبا على العبادة..
وأحببته حبا ما علمت أني أحببت أحدا مثله قبله.. فلما حضر قدره قلت له: انه قد حضرك من أمر الله تعالى ما ترى، فبم تأمرني والى من توصي بي؟؟
قال: أي بني، ما أعرف أحدا من الناس على مثل ما أنا عليه الا رجلا بالموصل..
فلما توفي، أتيت صاحب الموصل، فأخبرته الخبر، وأقمت معه ما شاء الله أن أقيم، ثم حضرته الوفاة، سألته فأمرني أن ألحق برجل في عمورية في بلاد الروم، فرحلت اليه، وأقمت معه، واصطنعت لمعاشي بقرات وغنمات..
ثم حضرته الوفاة، فقلت له: الى من توصي بي؟ فقال لي: يا بني ما أعرف أحدا على مثل ما كنا عليه، آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي يبعث بدين ابراهيم حنيفا.. يهاجر الى أرض ذات نخل بين جرّتين، فان استطعت أن تخلص اليه فافعل.
وان له آيات لا تخفى، فهو لا يأكل الصدقة.. ويقبل الهدية. وان بين كتفيه خاتم النبوة، اذا رأيته عرفته.

ومر بي ركب ذات يوم، فسألتهم عن بلادهم، فعلمت أنهم من جزيرة العرب. فقلت لهم: أعطيكم بقراتي هذه وغنمي على أن تحملوني معكم الى أرضكم؟.. قالوا: نعم.
واصطحبوني معهم حتى قدموا بي وادي القرى، وهناك ظلموني، وباعوني الى رجل من يهود.. وبصرت بنخل كثير، فطمعت أن تكون هذه البلدة التي وصفت لي، والتي ستكون مهاجر النبي المنتظر.. ولكنها لم تكنها.
وأقمت عند الرجل الذي اشتراني، حتى قدم عليه يوما رجل من يهود بني قريظة، فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة!! فوالله ما هو الا ان رأيتها حتى أيقنت أنها البلد التي وصفت لي..
وأقمت معه أعمل له في نخله في بني قريظة حتى بعث الله رسوله وحتى قدم المدينة ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف.
واني لفي رأس نخلة يوما، وصاحبي جالس تحتها اذ أقبل رجل من يهود، من بني عمه، فقال يخاطبه: قاتل الله بني قيلة اهنم ليتقاصفون على رجل بقباء، قادم من مكة يزعم أنه نبي..
فوالله ما أن قالها حتى أخذتني العرواء، فرجفت النخلة حتى كدت أسقط فوق صاحبي!! ثم نزلت سريعا، أقول: ماذا تقول.؟ ما الخبر..؟
فرفع سيدي يده ولكزني لكزة شديدة، ثم قال: مالك ولهذا..؟
أقبل على عملك..
فأقبلت على عملي.. ولما أمسيت جمعت ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء.. فدخلت عليه ومعه نفر من أصحابه، فقلت له: انكم أهل حاجة وغربة، وقد كان عندي طعام نذرته للصدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتم أحق الناس به فجئتكم به..
ثم وضعته، فقال الرسول لأصحابه: كلوا باسم الله.. وأمسك هو فلم يبسط اليه يدا..
فقلت في نفسي: هذه والله واحدة .. انه لا يأكل الصدقة..!!
ثم رجعت وعدت الى الرسول عليه السلام في الغداة، أحمل طعاما، وقلت له عليه السلام: اني رأيتك لا تأكل الصدقة.. وقد كان عندي شيء أحب أن أكرمك به هدية، ووضعته بين يديه، فقال لأصحابه كلوا باسم الله..
وأكل معهم..
قلت لنفسي: هذه والله الثانية.. انه يأكل الهدية..!!
ثم رجعت فمكثت ما شاء الله، ثم أتيته، فوجدته في البقيع قد تبع جنازة، وحوله أصحابه وعليه شملتلن مؤتزرا بواحدة، مرتديا الأخرى، فسلمت عليه، ثم عدلت لأنظر أعلى ظهره، فعرف أني أريد ذلك، فألقى بردته عن كاهله، فاذا العلامة بين كتفيه.. خاتم النبوة، كما وصفه لي صاحبي..
فأكببت عليه أقبله وأبكي.. ثم دعاني عليه الصلاة والسلام فجلست بين يديه، وحدثته حديثي كما أحدثكم الآن..
ثم أسلمت.. وحال الرق بيني وبين شهود بدر وأحد..
وفي ذات يوم قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" كاتب سيدك حتى يعتقك"، فكاتبته، وأمر الرسولأصحابه كي يعونوني. وحرر الله رقبتي، وعشت حرا مسلما، وشهدت مع رسول الله غزوة الخندق، والمشاهد كلها. هذه القصة مذكورة في الطبقات الكبرى لابن سعد ج4.

**

بهذه الكلمات الوضاء العذاب.. تحدث سلمان الفارسي عن مغامرته الزكية النبيلة العظيمة في سبيل بحثه عن الحقيقة الدينية التي تصله بالله، وترسم له دوره في الحياة..
فأي انسان شامخ كان هذا الانسان..؟
أي تفوق عظيم أحرزته روحه الطلعة، وفرضته ارادته الغلابة على المصاعب فقهرتها، وعلى المستحيل فجعلته ذلولا..؟
أي تبتل للحقيقة.. وأي ولاء لها هذا الذي أخرج صاحبه طائعا مختارا من ضياع أبيه وثرائه ونعمائه الى المجهول بكل أعبائه، ومشاقه، ينتقل من أرض الى أرض.. ومن بلد الى بلد.. ناصبا، كادحا عابدا.. تفحص بصيرته الناقدة الناس، والمذاهب والحياة.. ويظل في اصراره العظيم وراء الحق، وتضحياته النبيلة من أجل الهدى حتى يباع رقيقا.. ثم يثيبه الله ثوابه الأوفى، فيجمعه بالحق، ويلاقيه برسوله، ثم يعطيه من طول العمر ما يشهد معه بكلتا عينيه رايات الله تخفق في كل مكان من الأرض، وعباده المسلمون يملؤن أركانها وأنحاءها هدى وعمرانا وعدلا..؟!!

**

ماذا نتوقع أن يكون اسلام رجل هذه همته، وهذا صدقه؟
لقد كان اسلام الأبرار المتقين.. وقد كان في زهده، وفطنته، وورعه أشبه الناس بعمر بن الخطاب.
أقام أياما مع أبي الدرداء في دار واحدة.. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقوم الليل ويصوم النهار.. وكان سلمان يأخذ عليه مبالغته في العبادة على هذا النحو.
وذات يوم حاول سلمان أن يثني عزمه على الصوم، وكان نافلة..
فقال له أبو الدرداء معاتبا: أتمنعني أن أصوم لربي، وأصلي له..؟ّ
فأجابه سلمان قائلا:
ان لعينك عليك حقا، وان لأهلك عليك حقا، صم وافطر، وصل ونم..
فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
" لقد أشبع سلمان علما ".
وكان الرسول عليه السلام يرى فطنته وعلمه كثيرا، كما كان يطري خلقه ودينه..
ويوم الخندق، وقف الأنصار يقولون: سلمان منا.. وقف المهاجرون يقولون بل سلمان منا..
وناداهم الرسول قائلا:" سلمان منا آل البيت".

وانه بهذا الشرف لجدير..
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلقبه بلقمان الحكيم سئل عنه بعد موته فقال:
[ذاك امرؤ منا والينا أهل البيت.. من لكم بمثل لقمان الحكيم..؟
أوتي العلم الأول، والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف].
ولقد بلغ في نفوس أصحاب الرسول عليه السلام جميعا المنزلة الرفيعة والمكان الأسمى.
ففي خلافة عمر جاء المدينة زائرا، فصنع عمر ما لا نعرف أنه صنعه مع أحد غيره أبدا، اذ جمع أصحابه وقال لهم:
"هيا بنا نخرج لاستقبال سلمان".!!
وخرج بهم لاستقباله عند مشارف المدينة.
لقد عاش سلمان مع الرسول منذ التقى به وآمن معه مسلما حرّا، ومجاهدا وعابدا.
وعاش مع خليفته أبي بكر، ثم أمير المؤمنين عمر، ثم الخليفة عثمان حيث لقي ربه أثناء خلافته.
وفي معظم هذه السنوات، كانت رايات الاسلام تملأ الأفق، وكانت الكنوز والأموال تحمل الى المدينة فيئا وجزية، فتورّع الانس في صورة أعطيت منتظمة، ومرتبات ثابتة.
وكثرت مسؤوليات الحكم على كافة مستوياتها، فكثرت الأعمال والمناصب تبعا لها..
فأين كان سلمان في هذا الخضم..؟ وأين نجده في أيام الرخاء والثراء والنعمة تلك..؟

**

افتحوا ابصاركم جيدا..
أترون هذا الشيخ المهيب الجالس هناك في الظل يضفر الخوص ويجدله ويصنع منه أوعية ومكاتل..؟
انه سلمان..
انظروه جيدا..
انظروه جيدا في ثوبه القصير الذي انحسر من قصره الشديد الى ركبته..
انه هو، في جلال مشيبه، وبساطة اهابه.
لقد كان عطاؤه وفيرا.. كان بين أربعة وستة آلاف في العام، بيد أنه كان يوزعه جميعا، ويرفض أن يناله منه درهم واحد، ويقول:
"أشتري خوصا بدرهم، فأعمله، ثم أبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهما فيه، وأنفق درهما على عيالي، وأتصدّق بالثالث.. ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عن ذلك ما انتهيت"!

**

ثم ماذا يا أتباع محمد..؟
ثم ماذا يا شرف الانسانية في كل عصورها وواطنها..؟؟
لقد كان بعضنا يظن حين يسمع عن تقشف بعض الصحابة وورعهم، مثل أبي بكر الصديق وعمر وأبي ذر واخوانهم، أن مرجع ذلك كله طبيعة الحياة في الجزيرة العربية حيث يجد العربي متاع نفسه في البساطة..
فها نحن أمام رجل من فارس.. بلاد البذخ والترف والمدنية، ولم يكن من الفقراء بل من صفوة الناس. ما باله يرفض هذا المال والثروة والنعيم، ويصر أن يكتفي في يومه بدرهم يكسبه من عمل يده..؟
ما باله يرفض اامارة ويهرب منها ويقول:
"ان استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين؛ فافعل..".
ما باله يهرب من الامارة والمنصب، الا أن تكون امارة على سريّة ذاهبة الى الجهاد.. والا أن تكون في ظروف لا يصلح لها سواه، فيكره عليها اكراها، ويمضي اليها باكيا وجلا..؟
ثم ما باله حين يلي على الامارة المفروضة عليه فرضا يأبى أنيأخذ عطاءها الحلال..؟؟
روى هشام عن حسان عن الحسن:
" كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفا من الناس يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها.."
"وكان اذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من عمل يديه..".
ما باله يصنع كل هذا الصنيع، ويزهد كل ذلك الزهد، وه الفارسي، ابن النعمة، وربيب الحضارة..؟
لنستمع الجواب منه. وهو على فراش الموت. تتهيأ روحه العظيمة للقاء ربها العلي الرحيم.
دخل عليه سعد بن أبي وقاص يعوده فبكى سلمان..
قال له سعد:" ما يبكيك يا أبا عبد الله..؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض".
فأجابه سلمان:
" والله ما أبكي جزعا من الموت، ولاحرصا على الدنيا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد الينا عهدا، فقال: ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب، وهأنذا حولي هذه الأساود"!!

يعني بالأساود الأشياء الكثيرة!
قال سعد فنظرت، فلم أرى حوله الا جفنة ومطهرة، فقلت له: يا أبا عبدالله اعهد الينا بعهد نأخذه عنك، فقال:
" يا سعد:
اذكر عند الله همّتك اذا هممت..
وعند حكمتك اذا حكمت..
وعند يدك اذا قسمت.."

هذا هو اذن الذي ملأ نفسه غنى، بقدر ما ملأها عزوفا عن الدنيا بأموالها، ومناصبها وجاهها.. عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليه والى أصحابه جميعا: ألا يدعو الدنيا تتملكهم، وألا يأخذ أحدهم منها الا مثل زاد الركب..
ولقد حفظ سلمان العهد ومع هذا فقد هطلت دموعه حين رأى روحه تتهيأ للرحيل، مخافة أن يكون قد جاوز المدى.
ليس حوله الا جفنة يأكل فيها، ومطهرة يشرب منها ويتوضأ ومع هذا يحسب نفسه مترفا..
ألم أقل لكم انه أشبه الناس بعمر..؟

وفي الأيام التي كان فيها أميرا على المدائن، لم يتغير من حاله شيء. فقد رفض أن يناله من مكافأة الامارة درهم.. وظل يأكل من عمل الخوص.. ولباسه ليس الا عباءة تنافس ثوبه القديم في تواضعها..
وذات يوم وهو سائر على الطريق لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل تين وتمر..
كان الحمل يؤد الشامي ويتعبه، فلم يكد يبصر أمامه رجلا يبدو أنه من عامة الناس وفقرائهم، حتى بدا له أن يضع الحمل على كاهله، حتى اذا أبلغه وجهته أعطاه شيئا نظير حمله..
وأشار للرجل فأقبل عليه، وقال له الشامي: احمل عني هذا.. فحمله ومضيا معا.
واذ هما على الطريق بلغا جماعة من الانس، فسلم عليهم، فأجابوا واقفين: وعلى الأمير السلام..
وعلى الأمير السلام..؟
أي أمير يعنون..؟!!
هكذا سأل الشامي نفسه..
ولقد زادت دهشته حين رأى بعض هؤلاء يسارع صوب سلمان ليحمل عنه قائلين:
عنك أيها الأمير..!!
فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي، فسقط في يده، وهربت كلمات الاعتذار والأسف من بين شفتيه، واقترب ينتزع الحمل. ولكن سلمان هز رأسه رافضا وهو يقول:
" لا، حتى أبلغك منزلك"..!!

**


سئل يوما: ما الذي يبغض الامارة الى نفسك.؟
فأجاب: " حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها"..
ويدخل عليه صاحبه يوما بيته، فاذا هو يعجن، فيسأله:
أين الخادم..؟
فيجيبه قائلا:
" لقد بعثناها في حاجة، فكرهنا أن نجمع عليها عملين.."

وحين نقول بيته فلنذكر تماما، ماذا كان ذاك البيت..؟ فحين همّ سلمان ببناء هذا الذي يسمّى مع التجوّز بيتا، سأل البنّاء: كيف ستبنيه..؟
وكان البنّاء حصيفا ذكيا، يعرف زهد سلمان وورعه.. فأجابه قائلا:" لا تخف.. انها بناية تستظل بها من الحر، وتسكن فيها من البرد، اذا وقفت فيها أصابت رأسك، واذا اضطجعت فيها أصابت رجلك"..!
فقال له سلمان: "نعم هكذا فاصنع".

لم يكن هناك من طيبات الحياة الدنيا شيء ما يركن اليه سلمان لحظة، أو تتعلق به نفسه اثارة، الا شيئا كان يحرص عليه أبلغ الحرص، ولقد ائتمن عليه زوجته، وطلب اليها أن تخفيه في مكان بعيد وأمين.
وفي مرض موته وفي صبيحة اليوم الذي قبض فيه، ناداها:
"هلمي خبيّك التي استخبأتك"..!!
فجاءت بها، واذا هي صرة مسك، كان قد أصابها يوم فتح "جلولاء" فاحتفظ بها لتكون عطره يوم مماته.
ثم دعا بقدح ماء نثر المسك فيه، ثم ماثه بيده، وقال لزوجته:
"انضجيه حولي.. فانه يحصرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام، وانما يحبون الطيب".
فلما فعلت قال لها:" اجفئي علي الباب وانزلي".. ففعلت ما أمرها به..
وبعد حين صعدت اليه، فاذا روحه المباركة قد فارقت جسده ودنياه.
قد لحقت بالملأ الأعلى، وصعدت على أجنحة الشوق اليه، اذ كانت على موعد هناك مع الرسول محمد، وصاحبيه أبي بكر وعمر.. ومع ثلة مجيدة من الشهداء والأبرار.

**

[font:377e
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:46 pm

صهيب بن سنان - ربح البيع يا أبا يحيى !!

ولد في أحضان النعيم..

فقد اكن أبوه حاكم الأبلّة ووليا عليها لكسرى.. وكان من العرب الذين نزحوا الى العراق قبل الاسلام بعهد طويل، وفي قصره القائم على شاطئ الفرات، مما يلي الجزيرة والموصل، عاش الطفل ناعما سعيدا..
وذات يوم تعرضت البلاد لهجوم الروم.. وأسر المغيرون أعدادا كثيرة وسبوا ذلك الغلام " صهيب بن سنان"..
ويقتنصه تجار الرقيق، وينتهي طوافه الى مكة، حيث بيع لعبد الله بن جدعان، بعد أن قضى طفولته وشبابه في بلاد الروم، حتى أخذ لسانهم ولهجتهم.
ويعجب سيده بذكائه ونشاطه واخلاصه، فيعتقه ويحرره، ويهيء له فرصة الاتجار معه.
وذات يوم.. ولندع صديقع عمار بن ياسر يحدثنا عن ذلك اليوم:

" لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيها..
فقلت له: ماذا تريد..؟
فأجابني وما تريد أنت..؟
قلت له: أريد أن أدخل على محمد، فأسمع ما يقول.
قال: وأنا اريد ذلك..
فدخلنا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعرض علينا الاسلام فأسلمنا.
ثم مكثنا على ذلك حتى أمسينا..
ثم خرجنا ونحن مستخفيان".!!

عرف صهيب طريقع اذن الى دار الأرقم..
عرف طريقه الى الهدى والنور، وأيضا الى التضحية الشاقة والفداء العظيم..
فعبور الباب الخشبي الذي كان يفصل داخل دار الأرقم عن خارجها لم يكن يعني مجرّد تخطي عتبة.. بل كان يعني تخطي حدود عالم بأسره..!
عالم قديم بكل ما يمثله من دين وخلق، ونظام وحياة..
وتخطي عتبة دار الأرقم، التي لم يكن عرضها ليزيد عن قدم واحدة كان يعني في حقيقة الأمر وواقعه عبور خضمّ من الأهوال، واسع، وعريض..
واقتحام تلك العتبة، كان ايذانا بعهد زاخر بالمسؤليات الجسام..!
وبالنسبة للفقراء، والغرباء، والرقيق، كان اقتحام عقبة دار الأرقم يعني تضحية تفوق كل مألوف من طاقات البشر.

وان صاحبنا صهيبا لرجل غريب.. وصديقه الذي لقيه على باب الدار، عمّار بن ياسر رجل فقير.. فما بالهما يستقبلان الهول ويشمّران سواعدهما لملاقاته..؟؟
انه نداء الايمان الذي لا يقاوم..
وانها شمائل محمد عليه الصلاة والسلام، الذي يملؤ عبيرها أفئدة الأبرار هدى وحبا..
وانها روعة الجديد المشرق. تبهر عقولا سئمت عفونة القديم، وضلاله وافلاسه..
وانها قبل هذا كله رحمة الله يصيب بها من يشاء.. وهداه يهدي اليه من ينيب...
أخذ صهيب مكانه في قافلة المؤمنين..
وأخذ مكانا فسيحا وعاليا بين صفوف المضطهدين والمعذبين..!!
ومكانا عاليا كذلك بين صفوف الباذلين والمفتدين..
وانه ليتحدث صادقا عن ولائه العظيم لمسؤولياته كمسلم بايع الرسول، وسار تحت راية الاسلام فيقول:
" لم يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط الا كنت حاضره..
ولم يبايع بيعة قط الا كنت حاضرها..
ولا يسر سرية قط. الا كنت حاضرها..
ولا غزا غزاة قط، أوّل الزمان وآخره، الا منت فيها عن يمينه أ، شماله..
وما خاف المسلمون أمامهم قط، الا كنت أمامهم..
ولا خافوا وراءهم الا كنت وراءهم..
وما جعلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبين االعدوّ أبدا حتى لقي ربه"..!!
هذه صورة باهرة، لايمان فذ وولاء عظيم..
ولقد كان صهيب رضي الله عنه وعن اخوانه أجمعين، أهلا لهذا الايمان المتفوق من أول يوم استقبل فيه نور الله، ووضع يمينه في يكين الرسول..
يومئذ أخذت علاقاته بالناس، وبالدنيا، بل وبنفسه، طابعا جديدا. يومئذ. امتشق نفسا صلبة، زاهدة متفانية. وراح يستقبل بها الأحداث فيطوّعها. والأهوال فيروّعها.
ولقد مضى يواجه تبعاته في اقدام وجسور.ز فلا يتخلف عن مشهد ولا عن خطر.. منصرفا ولعه وشغفه عن الغنائم الى المغارم.. وعن شهوة الحياة، الى عشق الخطر وحب الموت..

ولقد افتتح أيام نضاله النبيل وولائه الجليل بيوم هجرته، ففي ذلك اليوم تخلى عن كل ثروته وجميع ذهبه الذي أفاءته عليه تجارته الرابحة خلال سنوات كثيرة قضاها في مكة.. تخلى عن كل هذه الثروة وهي كل ما يملك في لحظة لم يشب جلالها تردد ولا نكوص.
فعندما همّ الرسول بالهجرة، علم صهيب بها، وكان المفروض أن يكون ثالث ثلاثة، هم الرسول.. وأبو بكر.. وصهيب..
بيد أن القرشيين كانوا قد بيتوا أمرهم لمنع هجرة الرسول..
ووقع صهيب في بعض فخاخهم، فعوّق عن الهجرة بعض الوقت بينما كان الرسول وصاحبه قد اتخذا سبيلهما على بركة الله..
وحاور صهيب وداور، حتى استطاع أن يفلت من شانئيه، وامتطى ظهر ناقته، وانطلق بها الصحراء وثبا..
بيد أن قريشا أرسلت في أثره قناصتها فأدركوهخ.. ولم يكد صهيب يراهم ويواجههم من قريب حتى صاح فيهم قائلا:
" يا معشر قريش..
لقد علمتم أني من أرماكم رجلا.. وأيم والله لا تصلون اليّ حتى ارمي كبل سهم معي في كنانتي ثم أضربكم بسيفي حتى لا يبقى في يدي منه شيء، فأقدموا ان شئتم..
وان شئتم دللتكم على مالي، وتتركوني وشاني"..

ولقد استاموا لأنفسهم، وقبلوا أن يأخذوا ماله قائلين له:
أتيتنا صعلوكا فقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت بيننا ما بلغت، والآن تنطلق بنفسك وبمالك..؟؟
فدلهم على المكان الذي خبأ فيه ثروته، وتركوه وشأنه، وقفلوا الى مكة راجعين..

والعجب أنهم صدقوا قوله في غير شك، وفي غير حذر، فلم يسألوه بيّنة.. بل ولم يستحلفوه على صدقه..!! وهذا موقف يضفي على صهيب كثيرا من العظمة يستحقها كونه صادق وأمين..!!
واستأنف صهيب هجرته وحيدا سعيدا، حتى أردك الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء..

كان الرسول حالسا وحوله بعض أصحابه حين أهل عليهم صهيب ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهلاا:
" ربح البيع أبا يحيى..!!
ربح البيع أبا يحيى..!!
وآنئذ نزلت الآية الكريمة:
( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله، والله رؤوف بالعباد)..

أجل لقد اشترى صهيب نفسه المؤمنة ابتغاء مرضات الله بكل ثروته التي أنفق شبابه في جمعها، ولم يحس قط أنه المغبون..
فمال المال، وما الذهب وما الدنيا كلها، اذا بقي له ايمانه، واذا بقيت لضميره سيادته.. ولمصيره ارادته..؟؟
كان الرسول يحبه كثيرا.. وكان صهيب الى جانب ورعه وتقواه، خفيف الروح، حاضر النكتة..
رآه الرسول يأكل رطبا، وكان باحدى عينيه رمد..
فقال له الرسول ضاحكا:" أتأكل الرطب وفي عينيك رمد"..؟
فأجاب قائلا:" وأي بأس..؟ اني آكله بعيني الآخرى"..!!
وكان جوّادا معطاء.. ينفق كل عطائه من بيت المال في سبيل الله، يعين محتاجا.. يغيث مكروبا.." ويطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا".
حتى لقد أثار سخاؤه المفرط انتباه عمر فقال له: أراك تطعم كثيرا حتى انك لتسرف..؟
فأجابه صهيب لقد سمعت رسول الله يقول:
" خياركم من أطعم الطعام".
**

ولئن كانت حياة صهيب مترعة بالمزايا والعظائم، فان اختيار عمر بن الخطاب اياه ليؤم المسلمين في الصلاة مزية تملأ حياته ألفة وعظمة..
فعندما اعتدي على أمير المؤمنين وهو يصلي بالمسلمين صلاة الفجر..
وعندما احس نهاية الأجل، فراح يلقي على اصحابه وصيته وكلماته الأخيرة قال:
" وليصلّ بالناس صهيب"..
لقد اختار عمر يومئذ ستة من الصحابة، ووكل اليهم أمر الخليفة الجديد..

وخليفة المسلمين هو الذي يؤمهم في الصلاة، ففي الأيام الشاغرة بين وفاة أمير المؤمنين، واختيار الخليفة الجديد، من يؤم المسلمين في الصلاة..؟
ان عمر وخاصة في تلك الللحظات التي تأخذ فيها روحه الطاهرة طريقها الى الله ليستأني ألف مرة قبل أن يختار.. فاذا اختار، فلا أحد هناك أوفر حظا ممن يقع عليه الاختيار..
ولقد اختار عمر صهيبا..
اختاره ليكون امام المسلمين في الصلاة حتى ينهض الخليفة الجديد.. بأعباء مهمته..
اختاره وهو يعلم أن في لسانه عجمة، فكان هذا الاختيار من تمام نعمة الله على عبده الصالح صهيب بن سنان



*************************

خباب بن الأرت - أستاذ فنّ الفداء

خرج نفر من القرشيين، يغدّون الخطى، ميممين شطر دار خبّاب ليتسلموا منه سيوفهم التي تعاقدوا معه على صنعها..
وقد كان خباب سيّافا، يصنع السيوف ويبيعها لأهل مكة، ويرسل بها الى الأسواق..
وعلى غير عادة خبّاب الذي لا يكاد يفارق بيته وعمله، لم يجده ذلك النفر من قريش فجلسوا ينتظرونه..
وبعد حين طويل جاء خباب على وجهه علامة استفهام مضيئة، وفي عينيه دموع مغتبطة.. وحيّا ضيوفه وجلس..
وسألوه عجلين: هل أتممت صنع السيوف يا خباب؟؟
وجفت دموع خباب، وحل مكانها في عينيه سرور متألق، وقال وكأنه يناجي نفسه: ان أمره لعجب..
وعاد القوم يسألونه: أي أمر يا رجل..؟؟ نسألك عن سيوفنا، هل أتممت صنعها..؟؟
ويستوعبهم خبّاب بنظراته الشاردة الحالمة ويقول:

هل رأيتموه..؟ هل سمعتم كلامه..؟
وينظر بعضهم لبعض في دهشة وعجب..
ويعود أحدهم فيسأله في خبث:
هل رأيته أنت يا خبّاب..؟؟
ويسخر خبّاب من مكر صاحبه، فيردّ عليه السؤال قائلا:
من تعني..؟
ويجيب الرجل في غيظ: أعني الذي تعنيه..؟
ويجيب خبّاب بعد اذ أراهم أنه أبعد منالا من أن يستدرج، وأنه اعترف بايمانه الآن أمامهم، فليس لأنهم خدعوه عن نفسه، واستدرجوا لسانه، بل لأنه رأى الحق وعانقه، وقرر أن يصدع به ويجهر..

يجيبهم قائلا، وهو هائم في نشوته وغبطة روحه:
أجل... رأيته، وسمعته.. رأيت الحق يتفجر من جوانبه، والنور يتلألأ بين ثناياه..!!
وبدأ عملاؤه القرشيون يفهمون، فصاح به أحدهم:
من هذا الذي تتحدث عنه يا عبد أمّ أنمار..؟؟
وأجاب خبّاب في هدء القديسين:
ومن سواه، يا أخا العرب.. من سواه في قومك، من يتفجر من جوانبه الحق، ويخرج النور بين ثناياه..؟!
وصاح آخر وهبّ مذعورا:
أراك تعني محمدا..
وهز خبّاب رأسه المفعم بالغبطة، وقال:
نعم انه هو رسول الله الينا، ليخرجنا من الظلمات الى االنور..
ولا يدري خبّاب ماذا قال بعد هذه الكلمات، ولا ماذا قيل له..
كل ما يذكره أنه أفاق من غيبوبته بعد ساعات طويلة ليرى زوّاره قد انفضوا.. وجسمه وعظامه تعاني رضوضا وآلاما، ودمه النازف يضمّخ ثوبه وجسده..!!

وحدّقت عيناه الواسعتان فيما حوله.. وكان المكان أضيق من أن يتسع لنظراتهما النافذة، فتحمّل على آلامه، ونهض شطر الفضاء وأمام باب داره وقف متوكئا على جدارها، وانطلقت عيناه الذكيتان في رحلة طويلة تحدّقان في الأفق، وتدوران ذات اليمين وذات الشمال..انهما لا تقفان عند الأبعاد المألوفة للناس.. انهما تبحثان عن البعد المفقود...أجل تبحثان عن البعد المفقود في حياته، وفي حياة الناس الذين معه في مكة، والناس في كل مكان وزمان..
ترى هل يكون الحديث الذي سمعه من محمد عليه الصلاة والسلام اليوم، هو النور الذي يهدي الى ذلك البعد المفقود في حياة البشر كافة..؟؟
واستغرق خبّاب في تأمّلات سامية، وتفكير عميق.. ثم عاد الى داخل داره.. عاد يضمّد جراح جسده، ويهيءه لاستقبال تعذيب جديد،
وآلام جديدة..!!

ومن ذلك اليوم أخذ خبّاب مكانه العالي بين المعذبين والمضطهدين..
أخذ مكانه العالي بين الذين وقفوا برغم فقرهم، وضعفهم يواجهون كبرياء قريش وعنفها وجنونها..
أخذ مكانه العالي بين الذين غرسوا في قلوبهم سارية الراية التي أخذت تخفق في الأفق الرحيب ناعية عصر الوثنية، والقيصرية.. مبشرة بأيام المستضعفين والكادحين، الذين سيقفون تحت ظل هذه الراية سواسية مع أولئك الذين استغلوهم من قبل، وأذاقوهم الحرمان والعذاب..
وفي استبسال عظيم، حمل خبّاب تبعاته كرائد..
يقول الشعبي:
" لقد صبر خبّاب، ولم تلن له أيدي الكفار قناة، فجعلوا يلصقون ظهره العاري بالرضف حتى ذهب لحمه"..!!
أجل كان حظ خبّاب من العذاب كبيرا، ولكن مقاومته وصبره كانا أكبر من العذاب..
لقد حوّل كفار قريش جميع الحديد الذي كان بمنزل خبّاب والذي كان يصنع منه السيوف.. حولوه كله الى قيود وسلاسل، كان يحمى عليها في النار حتى تستعر وتتوهج، ثم يطوّق بها جسده ويداه وقدماه..
ولقد ذهب يوما مع بعض رفاقه المضطهدين الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا جوعين من التضحية، بل راجين العافية، فقالوا:" يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا..؟؟" أي تسأل الله لنا النصر والعافية...

ولندع خبّابا يروي لنا النبأ بكلماته:
" شكونا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببرد له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا..؟؟
فجلس صلى الله عليه وسلم، وقد احمرّ وجهه وقال:
قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه..!!
وليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخشى الله الله عز وجل، والذئب على غنمه، ولكنكم تعجلون"..!!

سمع خبّاب ورفاقه هذه الكلمات، فازداد ايمانهم واصرارهم وقرروا أن يري كل منهم ربّه ورسوله ما يحبّان من تصميم وصبر، وتضحية.
وخاض خبّاب معركة الهول صابرا، صامدا، محتسبا.. واستنجد القرشيون أم أنمار سيدة خبّاب التي كان عبدا لها قبل أن تعتقه، فأقبلت واشتركت في حملة تعذيبه..
وكانت تأخذ الحديد المحمى الملتهب، وتضعه فوق رأسه ونافوخه، وخبّاب يتلوى من الألم، لكنه يكظم أنفاسه، حتى لا تخرج منه زفرة ترضي غرور جلاديه..!!

ومرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، والحديد المحمّى فوق رأسه يلهبه ويشويه، فطار قلبه حنانا وأسى، ولكن ماذا يملك عليه الصلاة والسلام يومها لخبّاب..؟؟
لا شيء الا أن يثبته ويدعو له..
هنالك رفع الرسول صلى الله عليه وسلم كفيه المبسوطتين الى السماء، وقال:
" اللهم أنصر خبّابا"..
ويشاء الله ألا تمضي سوى أيام قليلة حتى ينزل بأم أنمار قصاص عاجل، كأنما جعله القدر نذيرا لها ولغبرها من الجلادين، ذلك أنها أصيبت بسعار عصيب وغريب جعلها كما يقول المؤرخون تعوي مثل الكلاب..!!
وقيل لها يومئذ لا علاج سوى أن يكوى رأسها بالنار..!!
وهكذا شهد رأسها العنيد سطوة الحديد المحمّى يصبّحه ويمسّيه..!!
**

كانت قريش تقاوم الايمان بالعذاب.. وكان المؤمنون يقاومون العذاب بالتضحية.. وكان خبّاب واحدا من أولئك الذين اصطفتهم المقادير لتجعل منهم أساتذة في فن التضحية والفداء..
ومضى خبّاب ينفق وقته وحياته في خدمة الدين الذي خفقت أعلامه..
ولم يكتف رضي الله عنه في أيام الدعوة الأولى بالعبادة والصلاة، بل استثمر قدرته على التعليم، فكان يغشى بيوت بعض اخوانه من المؤمنين الذين يكتمون اسلامهم خوفا من بطش قريش، فيقرأ معهم القرآن ويعلمهم اياه..

ولقد نبغ في دراسة القرآن وهو يتنزل آية آية.. وسورة، سورة حتى ان عبدالله بن مسعود، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:" من أراد أن يقرأ القرآن غصّا كما أنزل، فليقراه بقراءة ابن أم عبد"..
نقول:
حتى عبد الله بن مسعود كان يعتبر خبّابا مرجعا فيما يتصل بالقرآن حفظا ودراسة..

وهو الذي كان يدرّس القرآن لـ فاكمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد عندام فاجأهم عمر بن الخطاب متقلدا سيفه الذي خرج به ليصفي حسابه مع الاسلام ورسوله، لكنه لم يكد يتلو القرآن المسطور في الصحيفة التي كان يعلّم منها خبّاب، حتى صاح صيحته المباركة:
" دلوني على محمد"...!!

وسمع خبّاب كلمات عمر هذه، فخرج من مخبئه الذي كان قد توارى فيه وصاح:
" يا عمر..
والله اني لأرجوا أن يكون الله قد خصّك بدعوة نبيّه صلى الله عليه وسلم، فاني سمعته بالأمس يقول: اللهم أعز الاسلام بأحبّ الرجلين اليك.. أبي الحكم بن هشام، وعمربن الخطاب"..
وسأله عمر من فوره: وأين أجد الرسول الآن يا خبّاب:
" عند الصفا، في دار الأرقم بن أبي الأرقم"..
ومضى عمر الى حظوظه الوافية، ومصيره العظيم..!!
**

شهد خبّاب بن الأرت جميع المشهد والغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعاش عمره كله حفيظا على ايمانه ويقينه....
وعندما فاض بيت مال لمسلمين بالمال أيام عمر وعثمان، رضي الله عنهما، كان خبّاب صاحب راتب كبير بوصفه من المهاجرين لسابقين الى الاسلام..
وقد أتاح هذا الدخل الوفير لخبّاب أن يبتني له دارا بالكوفة، وكان يضع أمواله في مكان ما من الدار يعرفه أصحابه وروّاده.. وكل من وقعت عليه حاجة، يذهب فيأخذ من المال حاجته..
ومع هذا فقد كان خبّاب لا يرقأ له جفن، ولا تجف له دمعة كلما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الذين بذلوا حياهم للله، ثم ظفروا بلقائه قبل أن تفتح الدنيا على المسلمين، وتكثر في أيديهم الأموال.
اسمعوه وهو يتحدث االى عوّاده الذين ذهبوا يعودونه وهو رضي الله عنه في مرض موته.
قالوا له:
أبشر يا أبا عبدالله، فانك ملاق اخواتك غدا..
فأجابهم وهو يبكي:
" أما انه ليس بي جزع .. ولكنكم ذكّرتموني أقواما، واخوانا، مضوا بأجورهم كلها ام ينالوا من الدنيا شيئا..
وانّا بقينا بعدهم حتى نلنا من الدنيا ما لم نجد له موضعا الا التراب"..
وأشار الى داره المتواضعة التي بناها.
ثم أشار مرة أخرى الى المكان الذي فيه أمواله وقال:
" والله ما شددت عليها من خيط، ولا منعتها من سائل"..!
ثم التفت الى كنفه الذي كان قد أعدّ له، وكان يراه ترفا واسرافا وقال ودموعه تسيل:
" أنظروا هذا كفني..
لكنّ حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يوجد له كفن يوم استشهد الا بردة ملحاء.... اذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، واذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه"..!!
**

ومات خبّاب في السنة السابعة والثلاثين للهجرة..
مات أستاذ صناعة السيوف في الجاهلية..
وأستاذ صناعة التضحية والفداء في الاسلام..!!

مات الرجل الذي كان أحد الجماعة الذين نزل القرآن يدافع عنهم، ويحييهم، عندما طلب بعض السادة من قريش أن يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، وللفراء من أمثال :خبّاب، وصهيب، وبلال يوما آخر.
فاذا القرآن العظيم يختص رجال الله هؤلاء في تمجيد لهم وتكريم، وتهل آياته قائلة للرسول الكريم:
( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا: أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟! أليس الله بأعلم بالشاكرين واذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة)..

وهكذا، لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يراهم بعد نزول الآيات حتى يبالغ في اكرامهم فيفرش لهم رداءه، ويربّت على أكتافهم، ويقول لهم:
" أهلا بمن أوصاني بهم ربي"..
أجل.. مات واحد من الأبناء البررة لأيام الوحي، وجيل التضحية...

ولعل خير ما نودّعه به، كلمات الامام علي كرّم الله وجهه حين كان عائدا من معركة صفين، فوقعت عيناه على قبر غضّ رطيب، فسأل: قبر من هذا..؟
فأجابوه: انه قبر خبّاب..
فتملاه خاشعا آسيا، وقال:
رحم الله خبّابا..
لقد أسلم راغبا.
وهاجر طائعا..
وعاش مجاهدا..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:51 pm

أبو أيوب الأنصاري - انفروا خفافا و ثقالا

كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة، ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة، ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..
وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف، فاعترضوا طريق الناقة قائلين:
" يا رسول الله، أقم عندنا، فلدينا العدد والعدة والمنعة"..
ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:
" خلوا سبيلها فانها مأمورة".
ويبلغ الموكب دور بني بياضة، فحيّ بني ساعدة، فحي بني الحارث بن الخزرج، فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة، وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:
" خلوا سبيلها فانها مأمورة..

لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف، أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم، ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسجون.
أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..
من اجل هذا، ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله، فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه، وابتهل اليه بلسانه:
" اللهم خر لي، واختر لي"..
وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان، ثم عادت الى مبركها الأول، وألأقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..
أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره، وصار الرسول ضيفه، ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟
انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد، حفيد مالك بن النجار..
لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..
فمن قبل، وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين، مناصرين.

والآن رسول الله يشرف المدينة، ويتخذها عاصكة لدين الله، فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم، والرسول الكريم.
ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة، ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما، وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!
وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..
ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد، وبناء حجرة له بجواره..
ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة، وتؤلب القبائل، وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..
منذ تلك البداية، واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.
ففي بدر، وأحد والخندق، وفي كل المشاهد والمغازي، كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..
وبعد وفاة الرسول، لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها، مهما يكن بعد الشقة، وفداحة المشقة..!
وكان شعاره الذي يردده دائما، في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:
( انفروا خفافا وثقالا)..
مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين، ولم يقتنع أبو أ]وب بامارته.
مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه، ويقول:
" ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟
ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!

كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام، يقاتل تحت رايته، ويذود عن حرمته..
ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية، وقف مع علي في غير تردد، لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة، الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى، وبين صفوف المجاهدين..
وهكذا، لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه، وحمل سيفه، وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!

وفي هذه المعركة أصيب.
وذهب قائد جيشه ليعوده، وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..
فسأله القائد، وكان يزيد بن معاوية:
" ما حاجتك أبا أيوب"؟
ترى، هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟
كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر، وكل تخيّل لبني الانسان..!!
لقد طلب من يزيد، اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه، ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو، وهنالك يدفنه، ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!
أتحسبون هذا شعرا..؟
لا.. ولا هو بخيال، بل واقع، وحق شهدته الدنيا ذات يوم، ووقفت تحدق بعينيها، وبأذنيها، لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!
ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..
وفي قلب القسطنطينية، وهي اليوم استامبول، ثوى جثمان رجل عظيم، جدّ عظيم..!!

وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع، كان أهل القسطنطينية من الروم، ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...
وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:
" وكان الروم يتعاهدون قبره، ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!

وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول، والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح، على الرغم من ذلك، فان حياته كانت هادئة، نديّة كنسيم الفجر..

ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:
" واذا صليت فصل صلاة مودّع..
ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..
والزم اليأس مما في أيدي الناس"...
وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..
ولم تهف نفسه الى مطمع..
وقضى حياته في أشواق عابد، وعزوف مودّع..
فلما جاء أجله، لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:
" اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...
كان يؤمن بالنصر، وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع، وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام، ودخلت مجال نوره وضيائه..
ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك، في عاصمة تلك البلاد، حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة، وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب، أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها، فيسمع خفق أعلامها، وصهيل خيلها، ووقع أقدامها، وصصلة سيوفها..!!
وانه اليوم لثاو هناك..
لا يسمع صلصلة السيوف، ولا صهيل الخيول..
قد قضي الأمر، واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..
لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه، روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..
أن:
الله أكبر..
الله أكبر..
وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها، وسنا مجدها:
هذا ما وعدنا الله ورسوله
وصدق الله ورسوله....
[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[[
البراء بن مالك - الله ، ثم الجنة

هو ثاني أخوين عاشا في الله، وأعطيا رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا نكا وأزهر مع الأيام..
أما أولهما فهو أنس بن مالك خادم رسول الله عليه السلام.
أخذته أمه أم سليم الى الرسول وعمره يوم ذاك عشر سنين وقالت:
"يا رسول الله..
هذا أنس غلامك يخدمك، فادع الله له"..
فقبّله رسول الله بين عينيه ودعا له دعوة ظلت تحدو عمره الطويل نحو الخير والبركة..
دعا له لرسول فقال:
" اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له، وأدخله الجنة"..
فعاش تسعا وتسعين سنة، ورزق من البنين والحفدة كثيرين، كما أعطاه الله فيما أعطاه من رزق، بستانا رحبا ممرعا، كان يحمل الفاكهة في العام مرتين..!!
**

وثاني الأخوين، هو البراء بن مالك..
عاش حياته العظيمة المقدامة، وشعاره:
" الله، والجنة"..
ومن كان يراه، وهو يقاتل في سبيل الله، كان يرى عجبا يفوق العجب..
فلم يكن البراء حين يجاهد المشركين بسيفه ممن يبحثون عن النصر، وان يكن النصر آنئذ أجلّ غاية.. انما كان يبحث عن الشهادة..
كانت كل أمانيه، أن يموت شهيدا، ويقضي نحبه فوق أرض معركة مجيدة من معارك الاسلام والحق..
من أجل هذا، لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة..
وذات يوم ذهب اخوانه يعودونه، فقرأ وجوههم ثم قال:
" لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي..
لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة"..!!
ولقد صدّق الله ظنه فيه، فلم يمت البراء على فراشه، بل مات شهيدا في معركة من أروع معارك الاسلام..!!
**

ولقد كانت بطولة البراء يوم اليمامة خليقة به.. خليقة بالبطل الذي كان عمر بن الخطاب يوصي ألا يكون قائدا أبدا، لأن جسارته واقدامه، وبحثه عن الموت.. كل هذا يجعل قيادته لغيره من المقاتلين مخاطرة تشبه الهلاك..!!
وقف البراء يوم اليمامة وجيوش الاسلام تحت امرة خالد تتهيأ للنزال، وقف يتلمظ مستبطئا تلك اللحظات التي تمرّ كأنها السنين، قبل أن يصدر القائد أمره بالزحف..
وعيناه الثاقبتان تتحركان في سرعة ونفاذ فوق أرض المعركة كلها، كأنهما تبحثان عن أصلح مكان لمصرع البطل..!!
أجل فما كان يشغله في دنياه كلها غير هذه الغاية..
حصاد كثير يتساقط من المشركين دعاة الظلام والباطل بحدّ سيفه الماحق..
ثم ضربة تواتيه في نهاية المعركة من يد مشركة، يميل على أثرها جسده الى الرض، على حين تأخذ روحه طريقها الى الملأ الأعلى في عرس الشهداء، وأعياد المباركين..!!
**

ونادى خالد: الله أكبر، فانطلقت الصفوف المرصوصة الى مقاديرها، وانطلق معها عاشق الموت البراء بن مالك..
وراح يجندل أتباع مسيلمة الكذاب بسيفه.. وهم يتساقطون كأوراق الخريف تحت وميض بأسه..
لم يكن جيش مسيلمة هزيلا، ولا قليلا.. بل كان أخطر جيوش الردة جميعا..
وكان بأعداده، وعتاده، واستماتة مقاتليه، خطرا يفوق كل خطر..
ولقد أجابوا على هجوم المسلمين شيء من الجزع. وانطلق زعماؤهم وخطباؤهم يلقون من فوق صهوات جيادهم كلمات التثبيت. ويذكرون بوعد الله..
وكان البراء بن مالك جميل الصوت عاليه..
وناداه القائد خالد تكلم يا براء..
فصاح البراء بكلمات تناهت في الجزالة، والدّلالة، القوة..
تلك هي:
" يا أهل المدينة..
لا مدينة لكم اليوم..
انما هو الله والجنة"..
كلمات تدل على روح قائلها وتنبئ بخصاله.
أجل..
انما هو الله، والجنة..!!
وفي هذا الموطن، لا ينبغي أن تدور الخواطر حول شيء آخر..
حتى المدينة، عاصمة الاسلام، والبلد الذي خلفوا فيه ديارهم ونساءهم وأولادهم، لا ينبغي أن يفكروا فيها، لأنهم اذا هزموا اليوم، فلن تكون هنلك مدينة..
وسرت كلمات البراء مثل.. مثل ماذا..؟
ان أي تشبيه سيكون ظلما لحقيقة أثرها وتأثيرها..
فلنقل: سرت كلمات البراء وكفى..
ومضى وقت وجيز عادت بعده المعركة الى نهجها الأول..
المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر.
والمشركون يتسلقطون في حضيض هزيمة منكرة..
والبراء هناك مع اخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم..
واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها..
وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه..
وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح:
" يا معشر المسلمين..
احملوني وألقوني عليهم في الحديقة"..
ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة..!!
ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته..!!
فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد..!!
**

ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام..
ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه..
وصدق أبو بكر رضي الله عنه:
" احرص على الموت..
توهب لك الحياة"..!!

صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه..
ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى..
بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس.. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة..
ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة..
فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب..!!

ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة..
وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها.. هناك حيث تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده..
ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق..
**

وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها..
فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا..
وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون..
ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا..
وأبصرالبراء المشهد لإاسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن.. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها.. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما..!!
لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا..!!
وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء..
**

أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته..؟؟
بلى آن..!!
وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس
ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد..
**

احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين..
وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا..
وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته:
" اجعل امير الجند سهيل بن عديّ..
وليكن معه البراء بن مالك"..

والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية..
كان الاخوان العظيمان بين الحنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك..
وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس..
ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة..
واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين:
" أتذكر يا براء قول الرسول عنك: ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك..؟
يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا"..
ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا:
" اللهم امنحنا أكنافهم..
اللهم اهزمهم..
وانصرنا عليهم..
وألحقني اليوم بنبيّك"..
ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريب امنه.. نظرة طويلة، كأنه يودّعه..
وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم..
ونصروا نصرا مبينا.
**

ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر.. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور..
لقد بلغ المسافر داره..
وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا:

( أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون)....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:53 pm

خالد بن الوليد - لا ينام ولا يترك أحدا ينام

ان أمره لعجيب..!!

هذا الفاتك بالمسلمين يوم أحد والفاتك بأعداء الاسلام بقية الأيام..!!
ألا فلنأت على قصته من البداية..
ولكن أية بداية..؟؟
انه هو نفسه، لا يكاد يعرف لحياته بدءا الا ذلك اليوم الذي صافح فيه الرسول مبايعا..
ولو استطاع لنحّى عمره وحياته، كل ماسبق ذلك اليوم من سنين، وأيام..

فلنبدأ معه اذنمن حيث يحب.. من تلك اللحظة الباهرة التي خشع فيها قلبه لله، وتلقت روحه فيها لمسة من يمين الرحمن، وكلتا يديه يمي، فنفجّرت شوقا الى دينه، والى رسوله، والى استشهاد عظيم في سبيل الحق، ينضو عن كاهله أوزار مناصرته الباطل في أيامه الخاليات..

لقد خلا يوما الى نفسه، وأدار خواطره الرشيدة على الدين الجديد الذي تزداد راياته كل يوما تألقا وارتفاعا، وتمنّى على الله علام الغيوب أن يمدّ اليه من الهدى بسبب.. والتمعت في فؤاده الذكي بشائر اليقين، فقال:
" والله لقد استقام المنسم....
وان الرجل لرسول..
فحتى متى..؟؟
أذهب والله، فأسلم"..
ولنصغ اليه رضي الله عنه وهو يحدثنا عن مسيره المبارك الى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعن رحلته من مكة الى المدينة ليأخذ مكانه في قافلة المؤمنين:
".. وددت لو أجد من أصاحب، فلقيت عثمان بن طلحة، فذكرت له الذي أريد فأسرع الاجابة، وخرجنا جميعا فأدلجنا سحرا.. فلما كنا بالسهل اذا عمرو بن العاص، فقال مرحبا يا قوم،
قلنا: وبك..
قال: أين مسيركم؟ فأخبرناه، وأخبرنا أيضا أنه يريد النبي ليسلم.
فاصطحبنا حتى قدمنا المدينة أول يوم من صفر سنة ثمان..فلما اطّلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه بالنبوّة فردّ على السلام بوجه طلق، فأسلمت وشهدت شهادة الحق..
فقال الرسول: قد كنت أرى لك عقلا رجوت ألا يسلمك الا الى خير..
وبايعت رسول الله وقلت: استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله..
فقال: ان الاسلام يجبّ ما كان قبله..
قلت: يا رسول الله على ذلك..
فقال: اللهم اغفر لخالد بن الوليد كل ما أوضع فيه من صدّ عن سبيلك..
وتقدّم عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، فأسلما وبايعا رسول الله"...

أرأيتم قوله للرسول:" استغفر لي كل ما أوضعت فيه من صدّ عن سبيل الله"..؟؟
ان الذي يضع هذه العبارة بصره، وبصيرته، سيهتدي الى فهم صحيح لسلك المواقف التي تشبه الألغاز في حياة سيف الله وبطل الاسلام..
وعندما نبلغ تلك المواقف في قصة حياته ستكون هذه العبارة دليلنا لفهمها وتفسيرها-..
أما الآن، فمع خالد الذي أسلم لتوه لنرى فارس قريش وصاحب أعنّة الخيل فيها، لنرى داهية العرب كافة في دنيا الكرّ والفرّ، يعطي لآلهة أبائه وأمجاد قومه ظهره، ويستقبل مع الرسول والمسلمين عالما جديدا، كتب الله له أن ينهض تحت راية محمد وكلمة التوحيد..
مع خالد اذن وقد أسلم، لنرى من أمره عجبا..!!!!

أتذكرون أنباء الثلاثة شهداؤ أبطال معركة مؤتة..؟؟
لقد كانوا زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة..
لقد كانوا أبطال غزوة مؤتة بأرض الشام.. تلك الغزوة التي حشد لها الروم مائتي ألف مقاتل، والتي أبلى المسلمون فيها بلاء منقطع النظير..
وتذطرون العبارة الجليلة الآسية التي نعى بها الرسول صلى الله عليه وسلم قادة المعركة الثلاثة حين قال:
" أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا.
ثم أخذها جعفر فقاتل بها، حتى قتل شهيدا..
ثم أخذها عبدالله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا".
كان لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا بقيّة، ادّخرناها لمكانها على هذه الصفحات..
هذه البقيّة هي:
" ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله، ففتح الله علي يديه".
فمن كان هذا البطل..؟

لقد كان خالد بن الوليد.. الذي سارع الى غزوة مؤتة جنديا عاديا تحت قيادة القواد الثلاثة الذين جعلهم الرسول على الجيش: زيد، وجعفر وعبدالله ابن رواحة، والذين اساشهدوا بنفس الترتيب على ارض المعركة الضارية..
وبعد سقوط آخر القواد شهيدا، سارع الى اللواء ثابت بن أقوم فحمله بيمينه ورفعه عاليا وسط الجيش المسلم حتى لا بعثر الفوضى صفوفه..
ولم يكد ثابت يحمل الراية حتى توجه بها مسرعا الى خالد بن الوليد، قائلا له:
" خذ اللواء يا أبا سليمان"...
ولم يجد خالد من حقّه وهو حديث العهد بالاسلام أن يقود قوما فيهم الأنصار والمهاجرون الذين سبقوه بالاسلام..
أدب وتواضع وعرفان ومزايا هو لها اهل وبها جدير!!
هنالك قال مجيبا ثابت بن أقرم:
" لا آخذ اللواء، أنت أحق به.. لك سن وقد شهدت بدرا"..
وأجابه ثابت:" خذه، فأنت أدرى بالقتال مني، ووالله ما أخذته الا لك".
ثم نادى في المسلمين: اترضون امرة خالد..؟
قالوا: نعم..
واعتلى العبقري جواده. ودفع الراية بيمينه الى الأمام كأنما يقرع أبوابها مغلقة آن لها أن تفتح على طريق طويل لاحب سيقطعه البطل وثبا..
في حياة الرسول وبعد مماته، حتى تبلغ المقادير بعبقريته الخارقة أمرا كان مقدورا...
ولّي خالد امارة الجيش بعد أن كان مصير المعركة قد تحدد. فضحايا المسلمين كثيرون، وجناهم مهيض.. وجيش الروم في كثرته الساحقة كاسح، ظافر مدمدم..
ولم يكن بوسع أية كفاية حربية أن تغير من المصير شيئا، فتجعل المغلوب غالبا، والغالب مغلوبا..
وكان العمل الوحيد الذي ينتظر عبقريا لكي ينجزه، هو وقف الخسائر في جيش الاسلام، والخروج ببقيته سالما، أي الانسحاب الوقائي الذي يحول دون هلاك بقية القوة المقاتلة على أرض المعركة.
بيد أن انسحابا كهذا كان من الاستحالة بمكان..
ولكن، اذا كان صحيحا أنه لا مستحيل على القلب الشجاع فمن أشجع قلبا من خالد، ومن أروع عبقرية وأنفذ بصيرة..؟؟!

هنالك تقدم سيف الله يرمق أرض القتال الواسعة بعينين كعيني الصقر، ويدير الخطط في بديهته بسرعة الضوء.. ويقسم جيشه، والقتال دائر، الى مجموعات، ثم يكل الى كل مجموعة بمهامها.. وراح يستعمل فنّه المعجز ودهاءه البليغ حتى فتح في صفوف الروم ثغرة فسيحة واسعة، خرج منها جيش المسلمين كله سليما معافى. بعد أن نجا بسبب من عبقرية بطل الاسلام من كارثة ماحقة ما كان لها من زوال...!!
وفي هذه المعركة أنعم الرسول على خالد بهذا اللقب العظيم..

وتنكث قريش عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيتحرك المسلمون تحت قيادته لفتح مكة..
وعلى الجناح الأيمن من الجيش، يجعل الرسول خالدا أميرا..
ويدخل خالد مكة، واحدا من قادة الجيش المسلم، والأمة المسلمة بعد أن شهدته سهولها وجبالها. قائدا من قوّاد جيش الوثنية والشرك زمنا طويلا..
وتخطر له ذكريات الطفولة، حيث مراتعها الحلوة.. وذكريات الشباب، حيث ملاهيه الصاخبة..
ثم تجيشه ذكريات الأيام الطويلة التي ضاع فيها عمره قربانا خاسرا لأصنام عاجزة كاسدة..

وقبل أن يعضّ الندم فؤاده ينتفض تحت تحت روعة المشهد وجلاله..
مشهد المستضعفين الذين لا تزال جسومهم تحمل آثار التعذيب والهول، يعودون الى البلد الذي أخرجوا منه بغيا وعدوا، يعودون اليه على صهوات جسادهم الصاهلة، وتحت رايات الاسلام الخافقة.. وقد تحوّل همسهم الذي كانوا يتناجون به في دار الأرقم بالأمس، الى تكبيرات صادعة رائعة ترجّ مكة رجّا، وتهليلات باهرة ظافرة، يبدو الكون معها، وكأنه كله في عيد...!!
كيف تمّت المعجزة..؟
أي تفسير لهذا الذي حدث؟


لا شيء الا هذه الآية التي يرددها الزاحفون الظافرون وسط تهليلاتهم وتكبيراتهم حتى ينظر بعضهم الى بعض فرحين قائلين:
(وعد الله.. لا يخلف الله وعده)..!!

ويرفع خالد رأسه الى أعلى. ويرمق في اجلال وغبطة وحبور رايات الاسلام تملأ الأفق.. فيقول لنفسه:
أجل انه وعد الله ولا يخلف الله وعده..!!
ثم يحني رأسه شاكرا نعمة ربه الذي هداه للاسلام وجعله في يوم الفتح العظيم هذا، واحدا من الذين يحملون راية الاسلام الى مكة.. وليس من الذين سيحملهم الفتح على الاسلام..

ويظل خالد الى جانب رسول الله، واضعا كفاياته المتفوقة في خدمة الدين الذي آمن به من كل يقينه، ونذر له كل حياته.

وبعد أن يلحق الرسول بالرفيق الأعلى، ويحمل أبو بكر مسؤولية الخلافة، وتهبّ أعاصير الردّة غادرة ماكرة، مطوقة الدين الجديد بزئيرها المصمّ وانتفاضها المدمدم.. يضع أبو بكر عينه لأول وهلة على بطل الموقف ورجل الساعة.. ألي سليمان، سيف الله، خالد بن الوليد..!!
وصحيح أن أبا بكر لم يبدأ معارك المرتدين الا بجيش قاده هو بنفسه، ولكن ذلك لا يمنع أنه ادّخر خالدا ليوم الفصل، وأن خالدا في المعركة الفاصلة التي كانت أخطر معارك الردة جميعا، كان رجلها الفذ وبطلها الملهم..

عندما بدأت جموع المرتدين تتهيأ لانجاز مؤامرتها الضخمة، صمم الخليفة العظيم أبو بكر على أن يقود جيوش المسلمين بنفسه، ووقف زعماء الصحابة يبذلون محاولات يائسة لصده عن هذا العزم. ولكنه ازداد تصميما.. ولعله أراد بهذا أن يعطي القضية التي دعا الناس لخوض الحرب من أجلها أهميّة وقداسة، لا يؤكدها في رأيه الا اشتراكه الفعلي في المعارك الضارية التي ستدور رحاها بين قوى الايمان، وبين جيوش الضلال والردة، والا قيادته المباشرة لبعض أو لكل القوات المسلمة..
ولقد كانت انتفاضات الردة بالغة الخطورة، على الرغم من أنها بدأت وكأنها تمرّد عارض..

لقد وجد فيها جميع الموتورين من الاسلام والمتربصين به فرصتهم النادرة، سواء بين قبائل العرب، أم على الحدود، حيث يجثم سلطان الروم والفرس، هذا السلطان الذي بدأ يحسّ خطر الاسلام الأكبر عليه، فراح يدفع الفتنة في طريقه من وراء ستار..!!
ونشبت نيران الفتننة في قبائل: أسد، وغطفان، وعبس، وطيء، وذبيان..
ثم في قبائل: بني غامر، وهوزان، وسليم، وبني تميم..
ولم تكد المناوشات تبدأ حتى استحالت الى جيوش جرّارة قوامها عشرات الألوف من المقاتلين..
واستجاب للمؤامرة الرهيبة أهل البحرين، وعمان، والمهرة، وواجه الاسلام أخطر محنة، واشتعلت الأرض من حول المسلمين نارا.. ولكن، كان هناك أبو بكر..!!

عبّأ أبو بكر المسلمين وقادهم الى حيث كانت قبائل بني عبس، وبني مرّة، وذبيان قد خرجوا في جيش لجب..
ودار القتال، وتطاول، ثم كتب للمسلمين نصر مؤزر عظيم..
ولم يكد الجيش المنتصر يستقر بالمدينة. حتى ندبه الخليفة للمعركة التالية..

وكانت أنباء المرتدين وتجمّعاتهم تزداد كل ساعة خطورة .. وخرج أبو بكر على رأس هذا الجيش الثاني، ولكن كبار الصحابة يفرغ صبرهم، ويجمعون على بقاء الخليفة بالمدينة، ويعترض الامام علي طريق أبا بكر ويأخذ بزمام راحلته التي كان يركبها وهو ماض امام جيشه الزاحف فيقول له:
" الى أين يا خليفة رسول الله..؟؟
اني أقول لك ما قاله رسول الله يوم أحد:
لمّ سيفك يا أبا بكر لا تفجعنا بنفسك..."
وأمام اجماع مصمم من المسلمين، رضي الخليفة أن يبقى بالمدينة وقسّم الجيش الى احدى عشرة مجموعة.. رسم لكل مجموعة دورها..
وعلى مجموعة ضخمة من تلك المجموعات كان خالد بن الوليد أميرا..
ولما عقد الخليفة لكل أمير لواءه، اتجه صوب خالد وقال يخاطبه:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم عبدالله. وأخو العشيرة، خالد ابن الوليد، سيف من سيوف الله. سلّه الله على الكفار والمنافقين"..

ومضى خالد الى سبيله ينتقل بجيشه من معركة الى معركة، ومن نصر الى مصر حتى كانت المعركة الفاصلة..

فهناك باليمامة كان بنو حنيفة، ومن انحاز اليهم من القبائل، قد جيّشوا أخطر جيوش الردو قاطبة، يقوده مسيلمة الكذاب.
وكانت بعض القوات المسلمة قد جرّبت حظها مع جيوش مسيلمة، فلم تبلغ منه منالا..
وجاء أمر الخليفة الى قائده المظفر أن سر الى بني حنيفة.. وسار خالد..
ولم يكد مسيلمة يعلم أن ابن الوليد في الطريق اليه حتى أعاد تنظيم جيشه، وجعل منه خطرا حقيقيا، وخصما رهيبا..

والتقى الجيشان:
وحين تطالع في كتب السيرة والتاريخ، سير تلك المعركة الهائلة، تأخذك رهبة مضنية، اذ تجد نفسك أمام معركة تشبه في ضراوتها زجبروتها معارك حروبنا الحديثة، وان تلّفت في نوع السلاح وظروف القتال..
ونزل خالد بجيشه على كثيب مشرف على اليمامة، وأقبل مسيلمة في خيلائه وبغيه، صفوف جيشه من الكثرة كأنها لا تؤذن بانتهاء..!!

وسّلم خالد الألوية والرايات لقادة جيشه، والتحم الجيشان ودار القتال الرهيب، وسقط شهداء المسلمين تباعا كزهور حديقة طوّحت بها عاصفة عنيدة..!!
وأبصر خالد رجحان كفة الأعداء، فاعتلى بجواده ربوة قريبة وألقى على المعركة نظرة سريعة، ذكية وعميقة..
ومن فوره أدرك نقاط الضعف في جيشه وأحصاها..
رأى الشعور بالمسؤولية قد وهن تحت وقع المفاجأة التي دهمهم بها جيش مسيلمة، فقرر في نفس اللحظة أن يشدّ في أفئدة المسلمين جميعا الى أقصاه.. فمضى ينادي اليه فيالق جيشه وأجنحته، وأعاد تنسيق مواقعه على أرض المعركة، ثم صاح بصوته المنتصر:
" امتازوا، لنرى اليوم بلاء كل حيّ".
وامتازوا جميعا..
مضى المهاجرون تحت راياتهم، والأنصار تحت رايتهم " وكل بني أب على رايتهم".
وهكذا صار واضحا تماما، من أين تجيء الهزيمة حين تجيء واشتعلت الأنفس حماسة، اتّقدت مضاء، وامتلأت عزما وروعة..
وخالد بين الحين والحين، يرسل تكبيرة أو تهليلة أو صيحة يلقى بها امرا، فتتحوّل سيوف جيشه الى مقادير لا رادّ لأمرها، ولا معوّق لغاياتها..
وفي دقائق معدودة تحوّل اتجاه المعركة وراح جنود مسيلمة يتساقطون بالعشرات، فالمئات فالألوف، كذباب خنقت أنفاس الحياة فيه نفثات مطهر صاعق مبيد..!!

لقد نقل خالد حماسته كالكهرباء الى جنوده، وحلّت روحه في جيشه جميعا.. وتلك كانت احدى خصال عبقريّته الباهرة..
وهكذا سارت أخطر معارك الردة وأعنف حروبها، وقتل مسيلمة..
وملأت جثث رجاله وجيشه أرض القتال، وطويت تحت التراب الى الأبد راية الدّعيّ الكذاب..

وفي المدينة صلى الخليفة لربه الكبير المتعال صلاة الشكر، اذ منحهم هذا النصر، وهذا البطل..
وكان أبو بكر قد أدرك بفطنته وبصيرته ما لقوى الشر الجاثمة وراء حدود بلاده من دور خطير في تهديد مصير الاسلام واهله.. الفرس في العراق.. والروم في بلاد الشام..
امبرطوريتان خرعتان، تتشبثان بخيوط واهنة من حظوظهما الغاربة وتسومان الناس في العراق وفي الشام سوء العذاب، بل وتسخرهم، وأكثرهم عرب، لقتال المسلمين العرب الذين يحملون راية الدين الجديدة، يضربون بمعاوله قلاع العالم القديم كله، ويجتثون عفنه وفساده..!
هنالك أرسل الخليفة العظيم المبارك توجيهاته الى خالد أن يمضي بجيشه صوب العراق..
ويمضي البطل الى العراق، وليت هذه الصفحات كانت تتسع لتتبع مواكب نصره، اذن لرأينا من أمرها عجبا.
لقد استهلّ عمله في العراق بكتب أرسلها الى جميع ولاة كسرى ونوابه على ألوية العراق ومدائنه..
" بسم الله الرحمن الرحيم
من خالد بن الوليد.. الى مرازبة فارس..
يلام على من اتبع الهدى
أما بعد، فالحمد لله الذي فضّ خدمكم، وسلب ملككم، ووهّن كيدكم
من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، واكل ذبيحتنا فذلكم المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا
اذا جاءكم كتابي فابعثوا اليّ بالرهن واعتقدوا مني الذمّة
والا، فوالذي لا اله غيره لأبعثن اليكم قوما يحبون الموت كما تحبون الحياة"..!!

وجاءته طلائعه التي بثها في كل مكان بأنباء الزّخوف الكثيرة التي يعدها له قوّاد الفرس في العراق، فلم يضيّع وقته، وراح يقذف بجنوده على الباطل ليدمغه.. وطويت له الأرض طيّا عجيبا.
في الأبلّة، الى السّدير، فالنّجف، الى الحيرة، فالأنبار، فالكاظمية. مواكب نصر تتبعها مواكب... وفي كل مكان تهلّ به رياحه البشريات ترتفع للاسلام راية يأوي الى فيئها الضعفاء والمستعبدون.
أجل، الضعفاء والمستعبدون من أهل البلد الذين كان الفرس يستعمرونهم، ويسومونهم سوء العذاب..
وكم كان رائعا من خالد أن بدأ زحفه بأمر أصدره الى جميع قوّاته:
" لا تتعرّضوا للفلاحين بسوء، دعوهم في شغلهم آمنين، الا أن يخرج بعضهم لقتالكم، فآنئذ قاتلوا المقاتلين".
وسار بجيشه الظافر كالسكين في الزبد الطريّ حتى وقف على تخوم الشام..
وهناك دوّت أصوات المؤذنين، وتكبيرات الفاتحين.
ترى هل سمع الروم في الشام..؟
وهل تبيّنوا في هذه التكبيرات نعي أيامهم، وعالمهم..؟
أجل لقد سمعوا.. وفزّعوا.. وقرّروا أن يخوضوا في حنون معركة اليأس والضياع..!

كان النصر الذي أحرزه الاسلام على الفرس في العراق بشيرا بنصر مثله على الروم في الشام..
فجنّد الصدّيق أبو بكر جيوشا عديدة، واختار لامارتها نفرا من القادة المهرة، أبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، ثم معاوية بن أبي سفيان..
وعندما نمت أخبار هذه الجيوش الى امبراطور الروم نصح وزراءه وقوّاده بمصالحة المسلمين، وعدم الدخول معهم في حرب خاسرة..
بيد أن وزراءه وقوّاده أصرّوا على القتال وقالوا:
" والله لنشغلنّ أبا بكر على أن يورد خيله الى أرضنا"..
وأعدوا للقتال جيشا بلغ قوامه مائتي ألف مقاتل، وأ{بعين ألفا.
وأرسل قادة المسلمين الى الخليفة بالصورة الرهيبة للموقف فقال أبو بكر:
" والله لأشفينّ وساوسهم بخالد"..!!!
وتلقى ترياق الوساوس.. وساوس التمرّد والعدوان والشرك، تلقى أمر الخليفة بالزحف الى الشام، ليكون أميرا على جيوش الاسلام التي سبقته اليها..
وما اسرع ما امتثل خالد وأطلع، فترك على العراق المثنّى بن الحارثة وسار مع قواته التي اختارها حتى وصل مواقع المسلمين بأرض الشام، وأنجز بعبقريته الباهرة تنظيم الجيش المسلم وتنسيق مواقعه في وقت وجيز، وبين يدي المعركة واللقاء، وقف في المقاتلين خطيبا فقال بعد أن حمد ربه وأثنى عليه:
" ان هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، وتعالوا نتعاور الامارة، فيكون أحدنا اليوم أميرا، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى يتأمّر كلكم"...
هذا يوم من أيام الله..
ما أروعها من بداية..!!
لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي..
وهذه أكثر روعة وأوفى ورعا!!

ولم تنقص القائد العظيم الفطنة المفعمة بالايثار، فعلى الرغممن أن الخليفة وضعه على رأس الجيش بكل أمرائه، فانه لم يشا أن يكون عونا للشيطان على أنفس أصحابه، فتنازل لهم عن حقه الدائم في الامارة وجعلها دولة بينهم..
اليوم أمير، ودغا أمي رثان.. وبعد غد أمير آخر..وهكذا..
كان جيش الروم بأعداده وبعتاده، شيئا بالغ الرهبة..
لقد أدرك قوّاد الروم أن الزمن في صالح المسلمين، وأن تطاول القتال وتكاثر المعارك يهيئان لهم النصر دائما، من أجل ذلك قرروا أن يحشدوا كل قواهم في معركة واحدة يجهزون خلالها على العرب حيث لا يبقى لهم بعدها وجود، وما من شك أن المسلمين أحسّوا يوم ذاك من الرهبة والخطر ما ملأ نفوسهم المقدامة قلقا وخوفا..
ولكن ايمانهم كان يخفّ لخدمتهم في مثل تلك الظلمات الحالكات، فاذا فجر الأمل والنصر يغمرهم بسناه..!!

ومهما يكن بأس الروم وجيوشهم، فقد قال أبو بكر، وهو بالرجال جدّ خبير:
" خالد لها".!!
وقال:" والله، لأشفينّ وساوسهم بخالد".
فليأت الروم بكل هولهم، فمع المسلمين الترياق..!!
عبأ ابن الوليد جيشه، وقسمه الى فيالق، ووضع للهجوم والدفاع خطة جديدة تتناسب مع طريقة الروم بعد أن خبر وسائل اخوانهم الفرس في العراق.. ورسم للمعركة كل مقاديرها..
ومن عجب أن المعركة دارت كما رسم خالد وتوقع، خطوة خطوة، وحركة حركة، حتى ليبدو وكأنه لو تنبأ بعدد ضربات السيوف في المعركة، لما أخطأ التقدير والحساب..!!
كل مناورة توقعها من الروم صنعوها..
كا انسحاب تنبأ به فعلوه..
وقبل أن يخوض القتال كان يشغل باله قليلا، احتمال قيام بعض جنود جيشه بالفرار، خاصة أولئك الذين هم حديثو العهد بالاسلام، بعد أن رأى ما ألقاه منظر جيش الروم من رهبة وجزع..
وكان خالد يتمثل عبقرية النصر في شيء واحد، هو الثبات..
وكان يرى أن حركة هروب يقوم بها اثنان أو ثلاثة، يمكن أن تشيع في الجيش من الهلع والتمزق ما لا يقدر عليه جيش العدو بأسره...
من أجل هذا، كان صارما، تجاه الذي يلقي سلاحه ويولي هاربا..
وفي تلك الموقعة بالذات موقعة اليرموك، وبعد أن أخذ جيشه مواقعه، دعا نساء المسلمين، ولأول مرّة سلّمهن السيوف، وأمرهن، بالوقوف وراء صفوف المسلمين من كل جانب وقال لهن:
" من يولّي هاربا فاقتلنه"..
وكانت لفتة بارعة أدت مهمتها على أحسن وجه..!!
وقبيل بدء القتال طلب قائد الروم أن يبرز اليه خالد ليقول له بضع كلمات ..
وبرز اليه خالد، حيث تواجها فوق جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين..
وقال ماهان قائد الروم يخاطب خالدا"
" قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم الا الجوع والجهد..
فان شئتم، أعطيت كل واحد منكم عشرة دنانير، وكسوة، وطعاما، وترجعون الى بلادكم، وفي العام القادم أبعث اليكم بمثلها".!!
وضغط خالد الرجل والبطل على أسنانه، وأدرك ما في كلمات قائد الروم من سوء الأدب..
وقرر أن يردذ عليه بجواب مناسب، فقال له:
" انه لم يخرجنا من بلادنا الجوع كما ذكرت، ولكننا قوم نشرب الدماء، وقد علمت أنه لا دم أشهى وأطيب من دم الروم، فجئنا لذلك"..!!
ولوة البطل زمام جواده عائدا الى صفوف جيشه. ورفع اللواء عاليا مؤذنا بالقتال..
" الله أكبر"
" هبّي رياح الجنة"..
كان جيشه يندفع كالقذيفة المصبوبة.
ودار قتال ليس لضراوته نظير..
وأقبل الروم في فيالق كالجبال..
وبجا لهم من المسلمين ما لم يكونوا يحتسبون..
ورسم المسلمون صورا تبهر الألباب من فدائيتهم وثباتهم..
فهذا أحدهم يقترب من أبي عبيدة بن الجرّاح رضي الله عنه والقتال دائر ويقول:
" اني قد عزمت على الشهادة، فهل لك من حاجة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلغها له حين ألقاه"؟؟
فيجيب أبو عبيدة:
" نعم قل له: يا رسول الله انا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا".
ويندفع الرجل كالسهم المقذوف.. يندفع وسط الهول مشتاقا الى مصرعه ومضجعه.. يضرب بسيفه، ويضرب بآلاف السيوف حتى يرتفع شهيدا..!!
وهذا عكرمة بن أبي جهل..
أجل ابن أبي جهل..
ينادي في المسلمين حين ثقلت وطأة الروم عليهم قائلا:
" لطالما قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهدني الله الاسلام، افأفرّ من أعداء الله اليوم"؟؟
ثم يصيح:" من يبايع على الموت"..
فيبايعه على الموت كوكبة من المسلمين، ثم ينطلقون معا الى قلب المعركة لا باحثين عن النصر، بل عن الشهادة.. ويتقبّل الله بيعتهم وبيعهم،
فيستشهدون..!!
وهؤلاء آخرون أصيبوا بجراح أليمة، وجيء لهم بماء يبللون به أفواههم، فلما قدم الماء الى أولهم، أشار الى الساقي أن أعط أخي الذي بجواري فجرحه أخطر، وظمؤه أشد.. فلما قدّم اليه الامء، اشار بدوره لجاره. فلا انتقل اليه أشار بدوره لجاره..
وهكذا، حتى.. جادت أرواح أكثرهم ظامئة.. ولكن أنضر ما تكون تفانيا وايثارا..!!
أجل..
لقد كانت معركة اليرموك مجالا لفدائية يعز نظيرها.
ومن بين لوحات الفداء الباهرة التي رسمتها عزمات مقدرة، تلك اللوحة الفذة.. لوحة تحمل صورة خالد بن الوليد على رأس مائة لا غير من جنده، ينقضّون على ميسرة الروم وعددها أربعون ألف جندي، وخالد يصيح في المائة الذين معه:
" والذي نفسي بيده ما بقي مع الروم من الصبر والجلد الا ما رأيتم.
واني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم".
مائة يخوضون في أربعين ألف.. ثم ينتصرون..!!
ولكن أي عجب؟؟
أليس مالء قلوبهم ايمان بالله العلي الكبير..؟؟
وايمان برسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؟؟
وايمان بقضية هي أكثر قضايا الحياة برا، وهدى ونبلا؟

وأليس خليفتهم الصديق رضي الله عنه، هذا الذي ترتفع راياته فوق الدنيا، بينما هو في المدينة’ العاصمة الجديدة للعالم الجديد، يحلب بيده شياه الأيامى، ويعجن بيده خبز اليتامى..؟؟
وأليس قائدهم خالد بن الوليد ترياق وساوس التجبر، والصفلف، والبغي، والعدوان، وسيف الله المسلول على قوى التخلّف والتعفّن والشرك؟؟
أليس ذلك، كذلك..؟
اذن، هبي رياح النصر...
هبّي قويّة عزيزة، ظافرة، قاهرة...

لقد بهرت عبقرية خالد قوّاد الروم وأمراء جيشهم، مما حمل أحدهم، واسمه جرجح على أن يدعو خالدا للبروز اليه في احدى فترات الراحة بين القتال.
وحين يلتقيان، يوجه القائد الرومي حديثه الى خالد قائلا:
" يا خالد، أصدقني ولا تكذبني فان الحرّ لا يكذب..
هل أنزل على نبيّكم سيفا من السماء فأعطاك ايّاه، فلا تسلّه على أحد الا هزمته"؟؟
قال خالد: لا..
قال الرجل:
فبم سميّت يبف الله"؟
قال خالد: ان الله بعث فينا نبيه، فمنا من صدّقه ومنا من كذّب.ز وكنت فيمن كذّب حتى أخذ الله قلوبنا الى الاسلام، وهدانا برسوله فبايعناه..
فدعا لي الرسول، وقال لي: أنت سيف من سيوف الله، فهكذا سميّت.. سيف الله".
قال القائد الرومي: والام تدعون..؟
قال خالد:
الى توحيد الله، والى الاسلام.
قال:
هل لمن يدخل في الاسلام اليوم مثل ما لكممن المثوبة والأجر؟
قال خالد: نعم وأفضل..
قال الرجل: كيف وقد سبقتموه..؟
قال خالد:
لقد عشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأينا آياته ومعجزاته وحق لمن رأى ما رأينا، وسمع ما سمعنا أن يسلم في يسر..
أما أنتم يا من لم تروه ولم تسمعوه، ثم آمنتم بالغيب، فان أجركم أجزل وأكبر اا صدقتم الله سرائركم ونواياكم.
وصاح القائد الرومي، وقد دفع جواده الى ناحية خالد، ووقف بجواره:
علمني الاسلام يا خالد"".!!!
وأسلم وصلى ركعتين لله عز وجل.. لم يصلّ سواهما، فقد استأنف الجيشان القتال.. وقاتل جرجه الروماني في صفوف المسلمين مستيتا في طلب لبشهادة حتى نالها وظفر بها..!!

وبعد، فها نحن أولاء نواجه العظمة الانسانية في مشهد من أبهى مشاهدها.. اذ كان خالد يقود جيوش المسلمين في هذه المعركة الضارية، ويستلّ النصر من بين أنياب الروم استلالا فذا، بقدر ما هو مضن ورهيب، واذا به يفاجأ بالبريد القادم من المدينة من الخليقة الجديد، أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.. وفيه تحيّة الفاروق للجيش المسلم، نعيه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه، وتولية أبي عبيدة بن الجرّاح مكانه..
قرأ خالد الكتاب، وهمهم بابتهالات الترحّم على ابي بكر والتوفيق لعمر..
ثم طلب من حامل الكتاب ألا يبوح لأحد بما فيه وألزمه مكانه أمره ألا يغادره، وألا يتصل بأحد.
استأنف قيادته للمعركة مخفيا موت أبي بكر، وأوامر عمر حتى يتحقق النصر الذي بات وشيكا وقريبا..
ودقّت ساعة الظفر، واندحر الروم..

وتقدّم البطل من أبي عبيدة مؤديا اليه تحيّة الجندي لقائده... وظنها أبو عبيدة في أول الأمر دعابة من دعابات القائد الذي حققق نصرا لم يكن في السحبان.. بيد أنه ما فتئ أن رآها حقيقة وجدّا، فقبّل خالد بين عينيه، وراح يطري عظمة نفسه وسجاياه..

وثمّت رواية تاريخية أخرى، تقول: ان الكتاب أرسل من أمير المؤمنين عمر الى أبي عبيدة، وكتم أبو عبيدة النبأ عن خالد حتى انتهت المعركة..
وسواء كان الأمر هذا أو ذاك، فان مسلك خالد في كلتا الحالتين هو الذي يعنينا.. ولقد كان مسلكا بالغ الروعة والعظمة والجلال..
ولا أعرف في حياة خالد كلها موقفا ينبئ باخلاصه العميق وصدقه الوثيق، مثل هذا الموقف...

فسواء عليه أن يكون أميرا، أو جنديا..
ان الامارة كالجندية، كلاهما سبب يؤدي به واجبه نحو الله الذي آمن به، ونحو الرسول الذي بايعه، ونحو الدين الذي اعتنقه وسار تحت رايته..
وجهده المبذول وهو أمير مطاع.. كجهده المبذول وهو جندي مطيع..!
ولقد هيأ له هذا الانتصار العظيم على النفس، كما هيأه لغيره، طراز الخلفاء الذين كانوا على راس الأمة المسلمة والدولة المسلمة يوم ذاك..
أبو بكر وعمر..
اسمان لا يكاد يتحرّك بهما لسان، حتى يخطر على البال كل معجز من فضائل الانسان، وعظمة الانسان..
وعلى الرغم من الودّ الذي كان مفقودا أحيانا بين عمر وخالد، فان نزاهة عمر وعدله،وورعه وعظمته الخارقة، لم تكن قط موضع تساؤول لدى خالد..
ومن ثم لم تكن قراراته موضع سك، لأن الضمير الذي يمليها، قد بلغ من الورع، ومن الاستقامة، ومن الاخلاص والصدق أقصى ما يبلغه ضمير منزه ورشيد..

لم يكن أمير المؤمنين عمر يأخذ على خالد من سوء، ولكنه كان يأخذ على سيفه التسرّع، والحدّة..
ولقد عبّر عن هذا حين اقترح على أبي بكر عزله اثر مقتل مالك بن نويرة، فقال:
" ان في سيف خالد رهقا"
أي خفة وحدّة وتسرّع..
[font:b907=Times New Roma
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 5:58 pm

أبو الدرداء - أيّ حكيم كان

بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

" ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند باريكم، وأنماها في درجاتكم، وخير من أن تغزو عدوّكم، فترضبوا رقابهم ويضربوا رقابكم، وخير من الدراهم والدنانير".؟؟
وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

" أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟
ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:
" ذكر الله...
ولذكر الله أكبر"..
**

لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية، ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...
أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل، وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم، حتى جاء نصر الله والفتح..
بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ، كلما خلا الى التأمل، وأوى الى محراب الحكمة، ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟
ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..

واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا، فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم، هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..
وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه، وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم، ورشد، وعظمة..
ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..
( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).
أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه، ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني، الذي جعل حياته، كل حياته لله رب العالمين..!!
**

والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟
ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟
انه ضياء الحكمة، وعبير الايمان..
ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا، أيّ سعيد..!!
سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:
" التفكر والاعتبار".
أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:
(فاعتبروا يا أولي الأبصار)...
وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:
" تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..
لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..

ويوم اقتنع بالاسلام دينا، وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم، كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين، وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم، بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..
بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..
ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:
" أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..
وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..
فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.
وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار، حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..
ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..
ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!

أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها، وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟
انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟
يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول، ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده، ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..
لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..

لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى، ويشارف به الحق في جلاله، والحقيقة في مشرقها، ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى، ومحظورات تترك، لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...
فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...

ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام، ويكفوا بها حاجات المسلمين..
ولكن منهج هؤلاء الأصحاب، لا يغمز منهج أبو الدرداء، كما أن منهجه لا يغمز منهجهم، فكل ميسّر لما خلق له..

وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..
التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه، ورسوله والاسلام..
سمّوه ان شئتم تصوّفا..
ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن، وقدرة الفيلسوف، وتجربة المحارب، وفقه الصحابي، ما جعل تصوّفه حركة حيّة في ل\بناء الروح، لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!

أجل..
ذلك هو أبو الدرداء، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..
وذلكم هو أبو الدرداء، الحكيم، القدّيس..
ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه، وزادها بصدره..
رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها، وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة، والصواب، والخير، ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..
سعداء، أولئك الذين يقبلون عليه، ويصغون اليه..
ألا تعالوا نف\قترب من حكمته يا أولي الألباب..
ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..
انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:
( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...
ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:
" ما قلّ وكفى، خير مما كثر وألهى"..
ويقول عليه السلام:
" تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم، فانه من كانت الدنيا أكبر همّه، فرّق الله شمله، وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله، وجعل غناه في قلبه، وكان الله اليه بكل خير أسرع".
من أجل ذلك، كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:
" اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..
سئل:
وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟
فأجاب:
أن يكون لي في كل واد مال"..!!
وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء، فذلك شر ألوان العبودية والرّق.
هنالك يقول:
" من لم يكن غنيا عن الدنيا، فلا دنيا له"..
والمال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غير.
ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال، وأن يكسبوه في رفق واعتدال، لا في جشع وتهالك.
فهو يقول:
" لا تأكل الا طيّبا..
ولا تكسب الا طيّبا..
ولا تدخل بيتك الا طيّبا".
ويكتب لصاحب له فيقول:
".. أما بعد، فلست في شيء من عرض الدنيا، والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا، فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:
اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله، فيسعد بما شقيت به..
واما ولد عاص، يعمل فيه بمعصية الله، فتشقى بما جمعت له،
فثق لهم بما عند الله من رزق، وانج بنفسك"..!

كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..
عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه، وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":
قال له:
" يا أبا الدرداء، ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟
فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:
ويحك يا جبير..
ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..
بينما هي أمة، ظاهرة، قاهرة، لها الملك، تركت أمر الله، فصارت الى ما ترى"..!
أجل..

وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة، افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها، ودين صحيح يصلها بالله..
ومن هنا أيضا، كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان، وتضعف روابطهم بالله، وبالحق، وبالصلاح، فتنتقل العارية من أيديهم، بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!
**

وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه، كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..
دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض، فوجدوه نائما على فراش من جلد..
فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."
فأجابهم وهو يشير بسبّابته، وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:
" ان دارنا هناك..
لها نجمع.. واليها نرجع..
نظعن اليها. ونعمل لها"..!!
وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..
خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه، ولم يقبل خطبته، ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم، فزوّجها أبو الدرداء منه.
وعجب الناس لهذا التصرّف، فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:
" ما ظنّكم بالدرداء، اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..
أين دينها منها يومئذ"..؟!
هذا حكيم قويم النفس، ذكي الفؤاد..
وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها، ويولّه القلب بها..
وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..
فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا، لا أن تمتلكك أنت الدنيا..
وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود، كلما صنعوا هذا، كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..
وانه ليقول:
" ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك، وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..
وفي خلافة عثمان رضي الله عنه، وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..
وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا، وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته، وزهده، وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..
وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..
وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..
فجمعهم أبو الدرداء، وقام فيهم خطيبا:
" يا أهل الشام..
أنتم الاخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..
ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟
تجمعون ما لا تأكلون..
وتبنون ما لا تسكنون..
وترجون ما لا تبلّغون..
وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون، فيوعون..
ويؤمّلون، فيطيلون..
ويبنون، فيوثقون..
فأصبح جمعهم بورا..
وأماهم غرورا..
وبيوتهم قبورا..
أولئك قوم عاد، ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".
ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة، ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل، وصاح في سخرية لا فحة:
" من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!

رجل باهر، رائع، مضيء، حكمته مؤمنة، ومشاعره ورعة، ومنطقه سديد ورشيد..!!
العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير، وتعرّض لرحمة الله، وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:
انه يقول:
التمسوا الخير دهركم كله..
وتعرّضوا لنفجات رحمة الله، فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..
" وسلوا الله أن يستر عوراتكم، ويؤمّن روعاتكم"...
كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة، يحذّر منه الناس.
هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم، فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..
فلنستمع له ما يقول:
" مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين، أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..
ويقول أيضا:
"لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..
ولا تحاسبوهم دون ربهم
عليكم أنفسكم، فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!
انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.
عليه أن يحمد الله على توفيقه، وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.
هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟
يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:
" مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا، والناس يسبّونه، فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟
قالوا بلى..
قال: فلا تسبّوه اذن، وحمدوا الله الذي عافاكم.
قالوا: أنبغضه..؟
قال: انما أبغضوا عمله، فاذا تركه فهو أخي"..!!
**

واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء، فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..
ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم، ويقدّسه كعابد فيقول:
" لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..
ولن يكون بالعلم جميلا، حتى يكون به عاملا".
أجل..
فالعلم عنده فهم، وسلوك.. معرفة، ومنهج.. فكرة حياة..
ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم، نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل، والمكانة، والمثوبة..
ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..
ها هو ذا يقول:
" مالي أرى العلماء كم يذهبون، وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..
ويقول أيضا:
" الناس ثلاثة..
عالم..
ومتعلم..
والثالث همج لا خير فيه".

وكما رأينا من قبل، لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.
يقول:
" ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر، هل علمت؟؟
فأقول نعم..
فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟
وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا، بل كان يدعو ربّه ويقول:
" اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."
قيل له:
وكيف تلعنك قلوبهم؟
قال رضي الله عنه:
" تكرهني"..!
أرأيتم؟؟
انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..

وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا، وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:
" معاتبة الأخ خير لك من فقده، ومن لك بأخيك كله..؟
أعط أخاك ولن له..
ولا تطع فيه حاسدا، فتكون مثله.
غدا يأتيك الموت، فيكفيك فقده..
وكيف تبكيه بعد الموت، وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟
ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..
يقول رضي الله عنه وأرضاه:
" اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر، أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!
يل لعظمة نفسك، واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!
انه يحذّر الناس من خداع الوهك، حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم، ومن بأسهم..!
ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم، ويطرحون بين يديه قضيتهم، وهو أنهم على الناس..!!
هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!
هذا هو أبو الدرداء الزاهد، العابد، الأوّاب..
هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه، وسألوه الدعاء، أجابهم في تواضع وثيق قائلا:
" لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!
**

كل هذا، ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟
ولكن أي عجب، وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر، وبقيّة الرجال..!؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:03 pm

زيد بن حارثة - لم يحبّ حبّه أحد

وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يودع جيش الاسلام الذاهب لملاقاة الروم في غزوة مؤتة ويعلن أسماء أمراء الجيش الثلاثة، قائلا:

" عليكم زيد بن حارئة.. فان أصيب زيد فجعفر بن أبي طاب.. فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة".
فمن هو زيد بن حارثة"..؟؟
من هذا الذي حمل دون سواه لقب الحبّ.. حبّ رسول الله..؟
أما مظهره وشكله، فكان كما وصفه المؤرخون والرواة:

" قصير، آدم، أي أسمر، شديد الأدمة، في أنفه فطس"..
أمّا نبؤه، فعظيم جدّ عظيم..!!
**

أعدّ حارثة أبو زيد الراحلة والمتاع لزوجته سعدى التي كانت تزمع زيارة أهلها في بني معن.
وخرج يودع زوجته التي كانت تحمل بين يديها طفلهما الصغير زيد بن حارثة، وكلما همّ أن يستودعهما القافلة التي خرجت الزوجة في صحبتها ويعود هو الى داره وعمله، ودفعه حنان خفيّ وعجيب لمواصلة السير مع زوجته وولده..
لكنّ الشقّة بعدت، والقافلة أغذّت سيرها، وآن لحارثة أن يودّع الوليد وأمّه، ويعود..
وكذا ودّعهما ودموعه تسيل.. ووقف طويلا مسمرا في مكانه حتى غابا عن بصره، وأحسّ كأن قلبه لم يعد في مكانه.. كأنه رحل مع الراحلين..!!
**

ومكثت سعدى في قومها ما شاء الله لها أن تمكث..
وذات يوم فوجئ الحيّ، حي بني معن، باحدى القبائل المناوئة له تغير عليه، وتنزل الهزيمة ببني معن، ثم تحمل فيما حملت من الأسرى ذلك الطفل اليفع، زيد بن حارثة..
وعادت الأم الى زوجها وحيدة.
ولم يكد حارثة يعرف النبأ حتى خرّ صعقا، وحمل عصاه على كاهله، ومضى يجوب الديار، ويقطع الصحارى، ويسائل القبائل والقوافل عن ولده وحبّة قلبه زيد، مسايّا نفسه، وحاديا ناقته بهذا الشعر الذي راح ينشده من بديهته ومن مآقيه:
بكيت على زيد ولم ادر ما فعل
أحيّ فثرجى؟ أم أتى دونه الأجل
فوالله ما أدري، واني لسائل
أغالك بعدي السهل؟ أم غالك الجبل

تذكرينه الشمس عنج طلوعها
وتعرض ذكراه اذا غربع\ها أفل
وان هبّت الأرواح هيّجن ذكره
فيا طول حزني عليه، ويا وجل
**

كان الرّق في ذلك الزمان البعيد يفرض نفسه كظرف اجتماعي يحاول أن يكون ضرورة..
كان ذلك في أثينا، حتى في أزهى عصور حريّتها ورقيّها..
وكذلك كان في روما..
وفي العالم القديم كله.. وبالتالي في جزيرة العرب أيضا..
وعندما اختطفت القبيلة المغيرة على بني معن نصرها، وعادت حاملة أسراها، ذهبت الى سوق عكاظ التي كانت منعقدة أنئذ، وباعوا الأسرى..

ووقع الطفل زيد في يد حكيم بن حزام الذي وهبه بعد أن اشتراه لعمته خديجة.
وكانت خديجة رضي الله عنها، قد صارت زوجة لمحمد بن عبدالله، الذي لم يكن الوحي قد جاءه بعد. بيد أنه كان يحمل كل الصفات العظيمة التي أهلته بها الأقدار ليكون غدا من المرسلين..

ووهبت خديجة بدورها خادمها زيد لزوجها رسول اله فتقبله مسرورا وأعتقه من فوره،وراح يمنحه من نفسه العظيمة ومن قلبه الكبير كل عطف ورعاية..
وفي أحد مواسم الحج. التقى تفر من حيّ حارثة بزيد في مكة، ونقلوا اليه لوعة والديه، وحمّلهم زيد سلامه وحنانه وشوقه لأمه وأبيه، وقال للحجّاج من قومه"
" أخبوا أبي أني هنا مع أكرم والد"..

ولم يكن والد زيد يعلم مستقر ولده حتى أغذّ السير اليه، ومعه أخوه..
وفي مكة مضيا يسألان عن محمد الأمين.. ولما لقياه قالا له:
"يا بن عبدالمطلب..
يا لن سيّد قومه، أنتم أهل حرم، تفكون العاني، وتطعمون الأسير.. جئناك في ولدنا، فامنن علينا وأحسن في فدائه"..
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم تعلق زيد به، وكان في نفس الوقت يقدّر حق ابيه فيه..

هنالك قال حارثة:
"ادعوا زيدا، وخيّروه، فان اختاركم فهو لكم بغير فداء.. وان اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني فداء"..!!
وتهلل وجه حارثة الذي لك يكن يتوقع كل هذا السماح وقال:
" لقد أنصفتنا، وزدتنا عن النصف"..
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم الى زيد، ولما جاء سأله:
" هل تعرف هؤلاء"..؟
قال زيد: نعم.. هذا أبي.. وهذا عمّي.
وأعاد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ما قاله لحارثة.. وهنا قال زيد:
" ما أنا بالذي أختار عليك أحدا، أنت الأب والعم"..!!
ونديت عينا رسول الله بدموعشاكرة وحانية، ثم أمسك بيد زيد، وخرج به الى فناء الكعبة، حيث قريش مجتمعة هناك، ونادى الرسول:
" اشهدوا أن زيدا ابني.. يرثني وأرثه"..!!
وكاد قلب حارثة يطير من الفرح.. فابنه لم يعد حرّا فحسب، بل وابنا للرجل الذي تسمّيه قريش الصادق الأمين سليل بني هاشم وموضع حفاوة مكة كلها..
وعاد الأب والعم الى قومهما، مطمئنين على ولدهما والذي تركاه سيّدا في مكة، آمنا معافى، بعد أن كان أبوه لا يدري: أغاله السهل، أم غاله الجبل..!!
**

تبنّى الرسول زيدا.. وصار لا يعرف في مكة كلها الا باسمه هذا زيد بن محمد..
وفي يوم باهر الشروق، نادى الوحي محمدا:
( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علّم الانسان ما لك يعلم)...
ثم تتابعت نجاءاته وكلماته:
( يا أيها الكدثر، قم فأنذر، وربّك فكبّر)...
(يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل اليك من ربك، وان لم تفعل فما بلّغت رسالته، والله يعصمك من الناس، ان الله لايهدي القوم الكافرين)...
وما ان حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعة الرسالة حتى كان زيد ثاني المسلمين.. بل قيل انه كان أول المسلمين...!!
**

أحبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم حبا عظيما، وكان بهذا الحب خليقا وجديرا.. فوفاؤه الذي لا نظير له، وعظمة روحه، وعفّة ضميره ولسانه ويده...
كل ذلك وأكثر من ذلك كان يزين خصال زيد بن حارثة أو زيد الحبّ كما كان يلقبه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام..
تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:
" ما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم في جيش قط الا أمّره عليهم، ولو بقي حيّا بعد رسول اللهلاستخلفه...
الى هذا المدى كانت منزلة زيد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فمن كان زيد هذا..؟؟
انه كما قلنا ذلك الطفل الذي سبي، ثم بيع، ثم حرره الرسول وأعتقه..
وانه ذلك الرجال القصير، الأسمر، الأفطس الأنف، بيد أنه أيضا ذلك الانسان الذي" قلبه جميع وروحه حر"..
ومن ثم وجد له في الاسلام، وفي قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى منزلة وأرفع مكان، فلا الاسلام ولا رسوله من يعبأ لحظه بجاه النسب، ولا بوجاهة المظهر.
ففي رحاب هذا الدين العظيم، يتألق بلال، ويتألق صهيب، ويتألق عمار وخبّاب وأسامة وزيد...
يتألقون جميعا كأبرا، وقادة..
لقد صحح الاسلام قيم الاسلام، قيم الحياة حين قال في كتابه الكريم:
( انّ أكرمكم عند الله أتقاكم)...
وفتح الأبواب والرحاب للمواهب الخيّرة، وللكفايات النظيفة، الأمينة، المعطية..
وزوّج رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا من ابنة عمته زينب، ويبدو أن زينب رضي الله عنها قد قبلت هذا الزواج تحت وطأة حيائها أن ترفض شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترغب بنفسها عن نفسه..
ولكن الحياة الزوجية أخذت تتعثر، وتستنفد عوامل بقائها، فانفصل زيد عن زينب.
وحمل الرسول صلى الله عليه وسلم مسؤوليته تجاه هذا الزواج الذي كان مسؤولا عن امضائه، والذي انتهى بالانفصال، فضمّ ابنة عمته اليه واختارها زوجة له، ثم اختار لزيد زوجة جديدة هي أم كلثوم بنت عقبة..

وذهب الشنئون يرجفون المدينة: كيف يتزوّج محمد مطلقة ابنه زيد؟؟
فأجابهم القرآن مفرّقا بين الأدعياء والأبنياء.. بين التبني والبنّوة، ومقررا الغاء عادة التبني، ومعلنا:
( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبين).
وهكذا عاد لزيد اسمه الأول:" زيد بن حارثة".
**

والآن..
هل ترون هذه اقوات المسلمة الخارجة الى معارك، الطرف، أو العيص، وحسمي، وغيرها..
ان أميرها جميعا، هو زيد بن حارثة..
فهو كما سمعنا السيدة عائشة رضي الله عنها تقول:" لم يبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في جيش قط، الا جعله أميرا هلى هذا الجيش"..

حتى جاءت غزوة مؤتة..
كان الروم بأمبراطوريتهم الهرمة، قد بدأوا يوجسون من الاسلام خيفة..بل صاروا يرون فيها خطرا يهدد وجودهم، ولا سيما في بلاد الشام التي يستعمرونها، والتي تتاخم بلاد هذا الدين الجديد، المنطلق في عنفوان واكتساح..
وهكذا راحوا يتخذون من الشام نقطة وثوب على الجزيرة العربية، وبلاد الاسلام...
**

وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم هدف المناوشات التي بدأها الروم ليعجموا بها عود الاسلام، فقرر أن يبادرهم، ويقنعهم بتصميم الاسلام الى أرض البلقاء بالشام، حتى اذا بلغوا تخومها لقيتهم جيوش هرقل من الروم ومن القبائل المستعربة التي كانت تقطن الحدود..
ونزل جيش الروم في مكان يسمّى مشارف..
في حين نزل جيش الاسلام يجوار بلدة تسمّى مؤتة، حيث سمّيت الغزوة باسمها...
**

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدرك أهمية هذه الغزوة وخطرها فاختار لها ثلاثة من الرهبان في الليل، والفرسان في النهار..
ثلاثة من الذين باعوا أنفسهم لله فلم يعد لهم مطمع ولا أمنية الا في استشهاد عظيم يصافحون اثره رضوان الله تعالى، ويطالعون وجهه الكريم..
وكان هؤلاء الثلاثة وفق ترتيبهم في امارة الجيش هم:
زيد بن حارثة،
جعفر بن أبي طالب،
عبدالله بن رواحة.
رضي الله عنهم وأرضاهم، ورضي الله عن الصحابوة أجمعين...
وهكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وقف يودّع الجيش يلقي أمره السالف:
" عليكم زيد بن حارثة..
فان أصيب زيد، فجعفر بن أبي طالب،...
فان أصيب جعفر، فعبدالله بن رواحة"...
وعلى الرغم من أن جعفر بن أبي طالب كان من أقرب الناس الى قلب ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
وعلى الرغم من شجاعته، وجسارته، وحسبه ونسبه، فقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمير التالي لزيد، وجعل زيدا الأمير الأول للجيش...
وبمثل هذا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر دوما حقيقة أن الاسلام دين جديد جاء يلغي العلاقات الانسانية الفاسدة، والقائمة على أسس من التمايز الفارغ الباطل، لينشئ مكانها علاقات جديدة، رشيدة، قوامها انسانية الانسان...!!
**

ولكأنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ غيب المعركة المقبلة حين وضع امراء الجيش على هذا الترتيب: زيد فجعفر، فابن رواحة.. فقد لقوا ربّهم جميعا وفق هذا الترتيب أيضا..!!

ولم يكد المسلمون يطالعون جيش الروم الذي حزروه بمائتي ألف مقاتل حتى أذهلهم العدد الذي لم يكن لهم في حساب..
ولكن متى كانت معارك الايمان معارك كثرة..؟؟
هنالك أقدموا ولم يبالوا.. وأمامهم قائدهم زيد حاملا راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتحما رماح العدو زنباله وسيوفه، لا يبحث عن النصر، بقدر ما يبحث عن المضجع الذي ترسو عنده صفقته مع الله الذي اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة.
لم يكن زيد يرى حواليه رمال البلقاء، ولا جيوش الروم بل كانت روابي الجنة، ورفرفها الأخضر، تخفق أمام عينيه كالأعلام، تنبئه أن اليوم يوم زفافه..
وكان هو يضرب، ويقاتل، لا يطوّح رؤوس مقاتليه، انما يفتح الأبواب، ويفضّ الأغلاق التي تحول بينه وبين الباب الكبير الواسع، الي سيدلف منه الى دار السلام، وجنات الخلد، وجوار الله..

وعانق زيد مصيره...
وكانت روحه وهي في طريقها الى الجنة تبتسم محبورة وهي تبصر جثمان صاحبها، لا يلفه الحرير الناعم، بل يضخّمه دم طهور سال في سبيل الله..
ثم تتسع ابتساماتها المطمئنة الهانئة، وهي تبصر ثاني الأمراء جعفرا يندفع كالسهم صوب الراية ليتسلمها، وليحملها قبل أن تغيب في التراب....
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:07 pm

الزبير بن العوام - حواري رسول الله

لا يجيء ذكر طلحة الا ويذكر الزبير معه..

ولا يجيء ذكر الزبير الا ويذكر طلحة معه..
فحين كان الرسول عليه الصلاة والسلام يؤاخي بين أصحابه في مكة قبل الهجرة، آخى بين طلحة والزبير.
وطالما كان عليه السلام يتحدث عنهما معا.. مثل قوله:
" طلحة والزبير جاراي في الجنة".
وكلاهما يجتمع مع الرسول في القرابة والنسب.

أما طلحة، فيجتمع في نسبه مع الرسول في مرة بن كعب.
وأما الزبير، فيلتقي في نسبه مع الرسول في قصّي بن كلاّب كما أن أمه صفية عمة الرسول صلى الله عليه وسلم..
وكل منهما طلحة والزبير كان أكثر الناس شبها بالآخر في مقادير الحياة..
فالتماثل بينهما كبير، في النشأة، في الثراء، في السخاء، في قوة الدين، في روعة الشجاعة، وكلاهما من المسلمين المبكرين باسلامهم...
ومن العشرة الذين بشّرهم الرسول بالجتة. ومن أصحاب الشورى الستة الذين وكّل اليهم عمر اختيار الخليفة من بعده.
وحتى مصيرهما كان كامل التماثل.. بل كان مصيرا واحدا.
**

ولقد أسلم الزبير، اسلاما مبكرا، اذ كان واحدا من السبعة الأوائل الذين سارعوا الى الاسلام، وأسهموا في طليعته المباركة في دار الأرقم..
وكان عمره يومئذ خمس عشر سنة.. وهكذا رزق الهدى والنور والخير صبيا..
ولقد كان فارسا ومقداما منذ صباه. حتى ان المؤرخين ليذكرون أن أول سيف شهر في الاسلام كان سيف الزبير.
ففي الأيام الأولى للاسلام، والمسلمون يومئذ قلة يستخفون في دار الأرقم.. سرت اشاعة ذات يوم أن الرسول قتل.. فما كان من الزبير الا أن استلّ سيفه وامتشقه، وسار في شوارع مكة، على حداثة سنه كالاعصار..!
ذهب أولا يتبيّن الخبر، معتزما ان ما ألفاه صحيحا أن يعمل سيفه في رقاب قريش كلها حتى يظفربهم أو يظفروا به..
وفي أعلى مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله ماذا به....؟ فأنهى اليه الزبير النبأ.. فصلى عليه الرسول، ودعا له بالخير، ولسيفه بالغلب.
وعلى الرغم من شرف الزبير في قومه فقد حمل حظه من اضطهاد قريش وعذابها.
وكان الذي تولى تعذيبع عمه.. كان يلفه في حصير، ويدخن عليه بالنار كي تزهق أنفاسه، ويناديه وهو تحت وطأة العذاب:" أكفر برب محمد، أدرأ عنك العذاب".
فيجيبه الزبير الذي لم يكن يوم ذاك أكثر من فتى ناشئ، غضّ العظام.. يجيب عمه في تحدّ رهب:
" لا..
والله لا أعود لكفر أبدا"...
ويهاجر الزبير الى الحبشة، الهجرتين الأولى والثانية، ثم يعود ليشهد المشاهد كلها مع رسول الله. لا تفتقده غزوة ولا معركة.

وما أكثر الطعنات التي تلقاها جسده واحتفظ بها بعد اندمال جراحاتها، أوسمة تحكي بطولة الزبير وأمجاده..!!
ولنصغ لواحد من الصحابة رأى تلك الأوسمة التي تزدحم على جسده، يحدثنا عنها فيقول:
" صحبت الزبير بن العوّام في بعض أسفاره ورأيت جسده، فرأيته مجذّعا بالسيوف، وان في صدره لأمثال العيون الغائرة من الطعن والرمي.
فقلت له: والله لقد شهدت بجسمك ما لم أره بأحد قط.
فقال لي: أم والله ما منها جراحة الا مع رسول الله وفي سبيل الله"..
وفي غزوة أحد بعد أن انقلب جيش قريش راجعا الى مكةو ندبه الرسول هو وأبو بكر لتعقب جيش قريش ومطاردته حتى يروا أن المسلمين قوة فلا يفكروا في الرجوع الى المدينة واستئناف القتال..
وقاد أبو بكر والزبير سبعين من المسلمين، وعلى الرغم من أنهم كانوا يتعقبون جيشا منتصرا فان اللباقة الحربية التي استخدمها الصديق والزبير، جعلت قريشا تظن أنها أساءت تقدير خسائر المسلمين، وجعلتها تحسب أن هذه الطليعة القوية التي أجاد الزبير مع الصديق ابراز قوتها، وما هي الا مقدمة لجيش الرسول الذي يبدو أنه قادم ليشن مطاردة رهيبة فأغذّت قريش سيرها، وأسرعت خطاها الى مكة..!!
ويوم اليرموك كان الزبير جيشا وحده.. فحين رأى أكثر المقاتلين الذين كان على رأسهم يتقهقرون أمام جبال الروم الزاحفة، صاح هو" الله أكبر".. واخترق تلك الجبال الزاحفة وحده، ضاربا بسيفه.. ثم قفل راجعا وسط الصفوف الرهيبة ذاتها، وسيف يتوهج في يمينه لا يكبو، ولا يحبو..!!
وكان رضي الله عنه شديد الولع بالشهادة، عظيم الغرام بالموت في سبيل الله.
وكان يقول:
" ان طلحة بن عبيد الله يسمي بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم ألا نبي بعد محمد...
واني لأسمي بنيّ بأسماء الشهداء لعلهم يستشهدون".!
وهكذا سمى ولده، عبدالله بن الزبير تيمنا بالصحابي الشهيد عبدالله بن جحش.
وسمى ولده المنذر، تيمنا بالشهيد المنذر بن عمرو.
وسمى عروة تيمنا بالشهيد عروة بن عمرو.
وسمى حمزة تيمنا بالشهيد الجليل عم الرسول حمزة بن عبدالمطلب.
وسمّى جعفر، تيمنا بالشهيد الكبير جعفر بن أبي طالب.
وسمى مصعبا تيمنا بالشهيد مصعب بن عمير.
وسمى خالد تيمنا بالصحابي الشهيد خالد بن سعيد..
وهكذا راح يختار لأبنائه أسماء الشهداء. راجيا أن يكونوا يوم تأتيهم آجالهم شهداء.
ولقد قيل في تاريخه:
" انه ما ولي امارة فط، ولا جباية، ولا خراجا ولا شيئا الا الغزو في سبيل الله".
وكانت ميزته كمقاتل، تتمثل في في اعتماده التام على نفسه، وفي ثقته التامة بها.
فلو كان يشاركه في القتال مائة ألف، لرأيته يقاتل وحده في لمعركة.. وكأن مسؤولية القتال والنصر تقع على كاهله وحده.
وكان فضيلته كمقاتل، تتمثل في الثبات، وقوة الأعصاب..
رأى مشهد خاله حمزة يوم أحد وقد كثّل المشركون بجثمانه القتيل في قسوة، فوقف أمامه كالطود ضاغطا على أسنانه، وضاغطا على قبضة سيفه، لا يفكر الا في ثأر رهيب سرعان ما جاء الوحي ينهى الرسول والمسلمين عن مجرّد التفكير فيه..!!
وحين طال حصار بني قريظة دون أن يستسلموا أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم مع علي ابن أبي طالب، فوقف أمام الحصن المنيع يردد مع علي قوله:
" والله لنذوقنّ ما ذاق حمزة، أو لنفتحنّ عليهم حصنهم"..
ثم ألقيا بنفسيهما وحيدين داخل الحصن..
وبقوة أعصاب مذهلة، أحكما انزال الرعب في أفئدة المتحصنين داخله وفتحا أبوابه للمسلمين..!!
ويوم حنين أبصر مالك بن عوف زعيم هوزان وقائد جيش الشرك في تلك الغزوة.. أبصره بعد هزيمتهم في حنين واقفا وسط فيلق من أصحابه، وبقايا جيشه المنهزم، فاقتحم حشدهم وحده، وشتت شملهم وحده، وأزاحهم عن المكمن الذي كانوا يتربصون فيه ببعض زعماء المسلمين، العائدين من المعركة..!!
**

ولقد كان حظه من حب الرسول وتقديره عظيما..
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يباهي به ويقول:
" ان لكل نبي حواريا وحواريي الزبير ن العوّام"..
ذلك أنه لم يكن ابن عمته وحسب، ولا زوج أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين، بل كان ذلك الوفي القوي، والشجاع الأبيّ، والجوّاد السخيّ، والبائع نفسه وماله لله رب العالمين:
ولقد أجاد حسان بن ثابت وصفه حين قال:
أقام على عهد النبي وهديه
حواريّه والقول بالفعل يعدل
أقام على منهاجه وطريقه
يوالي وليّ الحق، والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي
يصول، اذا ما كان يوم محجّل
له من رسول الله قربى قريبة
ومن نصرة الاسلام مجد موثّل
فكم كربة ذبّ الزبير بسيفه
عن المصطفى، والله يعطي ويجزل
**

وكان رفيع الخصال، عظيم الشمائل.. وكانت شجاعته وسخاؤه كفرسي رهان..!!
فلقد كان يدير تجارة رابحة ناجحة، وكان ثراؤه عريضا، ولكنه أنفقه في الاسلام حتى مات مدينا..!!
وكان توكله على الله منطلق جوده، ومنطلق شجاعته وفدائيته..
حتى وهو يجود بروحه، ويوصي ولده عبدالله بقضاء ديونه قال له:
" اذا أعجزك دين، فاستعن بمولاي"..
وسال عبدالله: أي مولى تعني..؟
فأجابه: الله، نعم المولى ونعم النصير"..
يقول عبدالله فيما بعد:
" فوالله ما وقعت في كربة من دينه الا قلت: يا مولى الزبير اقضي دينه، فيقضيه".
وفي يوم الجمل، على النحو الذي ذكرنا في حديثنا السالف عن حياة سيدنا طلحة كانت نهاية سيدنا الزبير ومصيره..
فبعد أن رأى الحق نفض يديه من القتال، وتبعه نفر من الذين كانوا يريدون للفتنة دوام الاشتعال، وطعنه القاتل الغادر وهو بين يدي ربه يصلي..
وذهب القاتل الى الامام علي يظن أنه يحمل اليه بشرى حين يسمعه نبأ عدوانه على الزبير، وحين يضع بين يديه سيفه الذي استلبه منه، بعد اقتراف جريمته..
لكن عليّا صاح حين علم أن بالباب قاتل الزبير يستأذن، صاح آمرا بطرده قائلا:
" بشّر قاتل ابن صفيّة بالنار"..
وحين أدخلوا عليه سيف الزبير، قبّله الامام وأمعن بالبكاء وهو يقول:
" سيف طالما والله جلا به صاحبه الكرب عن رسول الله"..!!

أهناك تحيّة نوجهها للزبير في ختام حديثنا عنه، أجمل وأجزل من كلمات الامام..؟؟
سلام على الزبير في مماته بعد محياه..
سلام، ثم سلام، على حواري رسول الله...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:13 pm

زيد بن ثابت - جامع القرآن

اذا حملت المصحف بيمينك، واستقبلته بوجهك، ومضيت تتأنق في روضاته اليانعات، سورة سورة، وآية آية، فاعلم أن من بين الذين يدينونك بالشكر والعرفان على هذا الصنع العظيم، رجل كبير اسمه: زيد بن ثابت...!!

وان وقائع جمع القرآن في مصحف، لا تذكر الا ويذكر معها هذا الصحابي الجليل..
وحين تنثر زهور التكريم على ذكرى المباركين الذين يرجع اليهم فضل جمع القرآن وترتيبه وحفظه، فان حظ زيد بن ثابت من تلك الزهور، لحظ عظيم..

**

هو أنصاري من المدينة..
وكان سنّه يوم قدمها النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا، احدى عشرة سنة، وأسلم الصبي الصغير مع المسلمين من أهله، وبورك بدعوة من الرسول له..
وصحبه آباؤه معهم الى غزوة بدر، لكن رسول الله ردّه لصغر سنه وحجمه، وفي غوزوة أحد ذهب مع جماعة من اترابه الى الرسول يحملون اليه ضراعتهم كي يقبلهم في أي مكان من صفوف المجاهدين..
وكان أهلوهم أكثر ضراعة والحاحا ورجاء..
ألقى الرسول على الفرسان الصغار نظرة شاكرة، وبدا كأنه سيعتذر عن تجنيدهم في هذه الغزوة أيضا..
لكن أحدهم وهو رافع بن خديج، تقدم بين يدي رسول الله، يحمل حربة، ويحركها بيمينه حركات بارعة،وقال للرسول عليه الصلاة والسلام:
" اني كما ترى رام، أجيد الرمي فأذن لي"..
وحيا الرسول هذه البطولة الناشئة، النضرة، بابتسامة راضية، ثم أذن له..
وانتفضت عروق أتلاتبه..
وتقد ثانيهم وهو سمرة بن جندب، وراح يلوّح في أدب بذراعيه المفتولين، وقال بعض اهله للرسول:
" ان سمرة يصرع رافعا"..
وحيّاه الرسول بابتسامته الحانية، وأذن له..

كانت سن كل من رافع وسمرة قد بلغت الخامسة عشرة، الى جانب نموهما الجسماني القوي..
وبقي من الأتراب ستة أشبال، منهم زيد بن ثابت، وعبدالله بن عمر..
ولقد راحوا يبذلون جهدهم وضراعتهم بالرجاء تارة، وبالدمع تارة، وباستعراض عضلاتهم تارة..
لكن أعمارهم كانت باكرة، وأجسامهم غضة، فوعدهم الرسول بالغزوة المقبلة..
بدأ زيد مع اخزانه دوره كمقاتل في سبي لالله بدءا من غزوة الخندق، سنة خمس من الهجرة.

كانت شخصيته المسلمة المؤمنة تنمو نموّا سريعا وباهرا، فهو لم يبرع كمجاهد فحسب، بل كمثقف متنوع المزايا أيضا، فهو يتابع القرآن حفظا، ويكتب الوحي لرسوله، ويتفوق في العلم والحكمة، وحين يبدأ رسول الله في ابلاغ دعوته للعالم الخارجي كله، وارسال كتبه لملوك الأرض وقياصرتها، يأمر زيدا أن يتعلم بعض لغاتهم فيتعلمها في وقت وجيز..
وهكذا تألقت شخصية زيد بن ثابت وتبوأ في المجتمع مكانا عليّا، وصار موضع احترام المسلمين وتوقيرهم..
يقول الشعبي:
" ذهب زيد بن ثابت ليركب، فأمسك ابن عباس بالرّكاب.
فقال له زيد: تنحّ يا ابن عم رسول الله.. فأجابه ابن عباس: لا، هكذا نصنع بعلمائنا"..
ويقول قبيصة:
" كان زيدا رأسا بالمدينة في القضاء، والفتوى والقراءة، والفرائض"..
ويقول ثابت بن عبيد:
" ما رأيت رجلا أفكه في بيته، ولا أوقر في مجلسه من زيد".
ويقول ابن عباس:
" لقد علم المحفوظن من أصحاب محمد أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم"..
ان هذه النعوت التي يرددها عنه أصحابه لتزيدنا معرفة بالرجل الذي تدّخر له المقادير شرف مهمة من أنبل المهام في تاريخ الاسلام كله..
مهمة جمع القرآن..
**

منذ بدأ الوحي يأخذ طريقه الى رسول الله ليكون من المنذرين، مستهلا موكب القرآن والدعوة بهذه الآيات الرائعة..
( اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم)..
منذ تلك البداية، والوحي يصاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويخف اليه كلما ولّى وجهه شطر الله راجيا نوره وهداه..
وخلال سنوات الرسالة كلها، حيث يفرغ النبي من غزوة ليبدأ بأخرى، وحيث يحبط مكيدة وحربا، ليواجه خصومة بأخرى، وأخرى. وحيث يبني عالما جديدا بكل ما تحمله من الجدّة من معنى..

كان الوحي يتنزل، والرسول يتلو، ويبلّغ، وكان هناك ثلة مباركة تحرّك حرصها على القرآن من أول يوم، فراح بعضهم يحفظ منه ما استطاع، وراح البعض الآخر ممن يجيدون الكتابة، يحتفظون بالآيات مسطورة.
وخلال احدى وعشرين سنة تقريبا، نزل القرآن خلالها آية آية، أو آيات، تلو آيات، ملبيا مناسبات النزول وأسبابها، كان أولئك الحفظة، والمسجلون، يوالون عملهم في توفيق من الله كبير..
ولم يجيء القرآن مرة واحدة وجكلة واحدة، لأنه ليس كتابا مؤلفا، ولا موضوعا.
انما هو دليل أمة جديدة تبني على الطبيعة، لبنة لبنة، ويوما يوما، تنهض عقيدتها، ويتشكل قلبها، وفكرها، وارادتها وفق مشيئة الهية، لا تفرض نفسها من عل، وانما تقود التجربة البشرية لهذه الأمة في طريق الاقتناع الكامل بهذه المشيئة..
ومن ثمّ، كان لا بد للقرآن أن يجيء منجّما، ومجرأ، ليتابع التجربة في سيرها النامي، ومواقفها المتجددة. وأزماتها المتصديّة.
توافر الحفاظ، والكتبة، كما ذكرنا من قبل، على حفظ القرآن وتسجيله،وكان على رأسهم علي ابن ابي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبدالله ابن مسعود، وعبدالله بن عباس، وصاحب الشخصية الجليلة التي نتحدث عنها الآن زيد بن ثابت رضي الله عنهم أجمعين..
**

وبعد أن تمّ نزولا، وخلال الفترة الأخيرة من فترات تنزيله، كان الرسول يقرؤه على المسلمين.. مرتبا سوره وآياته.
وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام شغل المسلمون من فورهم بحروب الردّة..
وفي معركة اليمامة.. التي تحدثنا عنها من قبل خلال حديثنا عن خالد بن الوليد وعن زيد بن الخطاب كان عدد الشهدا من قرّاء القرآن وحفظته كبيرا.. فما كادت نار الردّة تخبو وتنطفئ حتى فزع عمر الى الخليفة أبي بكر رضي الله عنهما راغبا اليه في الحاح أن يسارعوا الى جمع القرآن قبلما يدرك الموت والشهادة بقية القرّاء والحفاظ.
واستخار الخليفة ربه.. وشاور صحبه.. ثم دعا زيد بن ثابت وقال له:
" انك شاب عاقل لا نتهمك".
وأمره أن يبدأ بجمع القرآن الكريم، مستعينا بذوي الخبرة في هذا الموضوع..
ونهض زيد بالعمل الذي توقف عليه مصير الاسلام كله كدين..!
وأبلى بلاء عظيما في انجاز أشق المهام وأعظمها، فمضى يجمع الآيات والسور من صدور الحفاظ، ومن مواطنها المكتوبة، ويقبابل، ويعارض، ويتحرّى، حتى جمع القرآن مرتبا ومنسقا..
ولقد زكّى عمله اجماع الصحابة رضي الله عنهم الذين عاشوا يسمعونه من رسولهم صلى الله عليه وسلم خلال سنوات الرسالة جميعها، لا سيّما العلماء منهم والحفاظ والكتبة..
وقال زيد وهو يصوّر الصعوبة الكبرى التي شكلتها قداسة المهمة وجلالها..
" والله لو كلفوني نقل جبل من مكانه، لكان أهون عليّ مما أمروني به من جمع القرآن"..!!
أجل..
فلأن يحمل زيد فوق كاهله جبلا، أو جبالا، أرضى لنفسه من أن يخطئ أدنى خطأ، في نقل آية أو اتمام سورة..
كل هول يصمد له ضميره ودينه.. الا خطأ كهذا مهما يكن ضعيفا وغير مقصزد..
ولكن توفيق الله كان معه، كان معه كذلك وعده القائل:
( انا نحن نزلنا الذكر وان له لحافظون)..
فنجح في مهمته، وأنجز على خير وجه مسؤوليته وواجبه.
**

كانت هذه هي المرحلة الأولى في جمع القرآن..
بيد أنه جمع هذه المرة مكتوبا في أكثر من مصحف..

وعلى لرغم من أن مظاهر التفاوت والاختلاف بين هذه المصاحف كانت شكلية، فان التجربة أكّدت لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام وجوب توحيدها جميعها في مصحف واحد.
ففي خلافة عثمان رضي الله عنه، والمسلمون يواصلون فتوحاتهم وزحوفهم، مبتعدين عن المدين، مغتربين عنها..
في تلك الأيام، والاسلام يستقبل كل يوم أفواجا تلو أفواج من الداخلين فيه، المبايعين اياه، ظهر جليّا ما يمكن أن يفضي اليه تعدد المصاحف من خطر حين بدأت الألسنة تختلف على القرآن حتى بين الصحابة الأقدمين والأولين..
هنالك تقدم الى الخليفة عثمان فريق من الأصحاب رضي الله عنهم على رأسهم حذيفة بن اليمان مفسرين الضرورة التي تحتم توحيد المصحف..

واستخار الخليفة ربه وشاور صحبه..
وكما استنجد أبو بكر الصديق من قبل بزيد بن ثابت، استنجد به عثمان أيضا..
فجمع زيد أصحابه وأعوانه، وجاؤوا بالمصاحف من بيت حفصة بنت عمر رضي الله عنها، وكانت محفوظة لديها، وباشر ويد وصحبه مهمتهم العظيمة الجليلة..
كان كل الذين يعونون زيدا من كتاب الوحي، ومن حفظة القرآن..
ومع هذا فما كانوا يختلفون ، وقلما كانوا يختلفون، الا جعلوا رأي زيد وكلمته هي الحجة والفيصل.
**

والآن نحن نقرأ القرآن العظيم ميسّرا، أو نسمعه مرتلا، فان الصعوبات الهائلة التي عاناها الذين اصطنعهم الله لجمعه وحفظه لا تخطر لنا على بال..!!
تماما مثل الأهوال التي كابدوها، والأرواح التي بذلوها، وهم يجاهدون في سبيل الله، ليقرّوا فوق الأرض دينا قيّما، وليبددوا ظلامها بنوره المبين..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:15 pm

العباس بن عبد المطلب - ساقي الحرمين

في عام الرمادة، وحيث أصاب العباد والبلاد قحط وبيل، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه الى الفضاء الرحب يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون الى الله الرحيم أن يرسل اليهم الغيث والمطر..

ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال:
" اللهم انا كنا نسقى بنبيك وهو بيننا..
اللهم وانا اليوم نستسقي بعمّ نبيّك فاسقنا"..
ولم يغادر المسلميون مكانهم حتى حاءهم الغيث، وهطل المطر، يزفّ البشرى، ويمنح الريّ، ويخصب الأرض..

وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه، ويقبّلونه، ويتبركون به وهم يقولون:
" هنئا لك..
ساقي الحرمين"..
فمن كان ساقي الحرمين هذا..؟؟
ومن ذا الذي توسل به به عمر الى الله.. ومعر من نعرف تقى وسبقا ومكانة عند الله ورسوله ولدى المؤمنين..؟؟
انه العباس عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم..
كان الرسول يجلّه بقدر ما كان يحبه، وكان يمتدحه ويطري سجاياه قائلا:
" هذه بقيّة آبائي"..
**

هذا العباس بن عبد المطلب أجود قريش كفا وأوصلها"..!!
وكما كان حمزة عمّ الرسول وتربه، كذلك كان العباس رضي الله عنه فلم يكن يفصل بينهما في سنوات العمر سوى سنتين أو ثلاث، تزيد في عمر العباس عن عمر الروسل..
وهكذا كان محمد، والعباس عمه، طفلين من سن واحدة، وشابين من جيل واحد..
فلم تكن القرابةالقريبة وحدها، آصرة ما بينهما من ودّ، بل كانت كذلك زمالة السنّ،وصداقة العمر..
وشيء آخر نضعه معايير النبي في المكان الأول دوما.. ذلك هو خلق العباس وسجاياه..
فلقد كان العباس جوّادا، مفرط الجود، حتى كأنه للمكلرم عمّها أو خالها..!!
وكان وصولا للرحم والأهل، لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه، ولا بمال...
وكان الى هذه وتلك، فطنا الى حدّ الدهاء، وبفطنته هذه التي تعززها مكانته الرفيعة في قريش، استطاع أن يدرأ عن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يجهر بدعوته الكثير من الأذى والسوء..
**

كان حمزة كما رأينا في حديثنا عنه من قبل يعالج بغي قريش، وصلف أبي جها بسيفه الماحق..
أما العباس فكان يعالجها بفطنة ودهاء أدّيا للاسلام من لنفع مثلما أدّت السيوف المدافعة عن حقه وحماه..!!
فالعباس لم يعلن اسلامه الا عام فتح مكة، مما جعل بعض المؤرخين يعدونه مع الذين تأخر اسلامه..
بيد أن روايات أخرى من التاريخ تنبئ بأنه كان من المسلمين المبكّرين، غير أنه كان يكتم اسلامه..
يقول أبو رافع خادم الرسول صلى الله عليه وسلم:
" كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب، وكان الاسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت... وكان العباس يكتم اسلامه"..
هذه رواية أبو رافع يتحدث بها عن حال العباس واسلامه قبل غزوة بدر..
كان العباس اذن مسلما..
وكان مقامه بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه خطة أدت غايتها على خير نسق..
ولم تكن قريش تخفي شكوكها في نوايا العباسو ولكنها أيضا لم تكن تجد سبيلا لمحادّته، لا سيما وهو في ظاهر أمره على ما يرضون من منهج ودين..
حتى اذا جاءت غزوة بدر رأتها قريش فرصة تبلو بها سريرة العباس وحقيقته..
والعباس أدهى من أن يغفل عن اتجاهات ذلك المكر السيء الذي تعالج به قريش حسراتها، وتنسج به مؤامراتها..
ولئن كان قد نجح في ابلاغ النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أنباء قريش وتحرّكاتها، فان قريشا ستنجح في دفعه الى معركة لا يؤمن بها ولا يريدها.. بيد أنه نجاح موقوت لن يلبث حتى ينقلب على القرشيين خسارا وبوارا..
**

ويلتقي الجمعان في غزوة بدر..
وتصطك السيوف في عنفوان رهيب، مقررة مصير كل جمع، وكل فريق..
وينادي الرسول في أصحابه قائلا:
" ان رجالا من بني هاشم، ومن غير بني هاشم، قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا.. فمن لقي منكم أحدهم فلا يقتله..
ومن لقي البختريّ بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله..
ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله، فانه انما أخرج مستكرها"..
لم يكن الرسول بأمره هذا يخصّ عمّه العباس بميّزة، فما تلك مناسبة المزايا، ولا هذا وقتها..
وليس محمد عليه الصلاة والسلام من يرى رؤوس أصحابه تتهاوى في معرة الحق، ثم يشفع والقتال دائر لعمه، لو كان يعلم أن عمه من المشركين..
أجل..
ان الرسول الذي نهى عن أن يستغفر لعمه أبي طالب على كثرة ما أسدى أبو طالب له وللاسلام من أياد وتضحيات..
ليس هو منطقا وبداهة من يجيء في غزوة بدر ليقول لمن يقتلون آباءهم واخوانهم من المشركين: استثنوا عمي ولا تقتلوه..!!
أما اذا كان الرسول يعلم حقيقة عمه، ويعلم أنه يطوي على الاسلام صدره، كما يعلم أكثر من غيره، الخدمات غير المنظورة التي أدّاها للاسلام.. كما يعلم أخيرا أنه خرج مكرها ومحرجا فآنئذ يصير من واجبه أن ينقذ من هذا شأنه، وأن يعصم من القتل دمه ما استطاع لهذا سبيلا..

واذا كان أبو البختري بن حارث وهذا شأنه، قد ظفر بشفاعة الرسول لدمه حتى لا يهدر، ولحياته كي لا تزهق..
أفلا يكون جديرا بهذه الشفاعة، مسلم يكتم اسلامه... ورجل له في نصرة الاسلام مواقف مشهودة، وأخرى طوي عليها ستر الخفاء..؟؟
بلى..ولقد كان العباس ذلك المسلم، وذلك النصير.
ولنعد الى الوراء قليلا لنرى..
**

في بيعة العقبة الثانية عندما قدم مكة في موسم الحاج وفد الأنصار، ثلاثة وسبعون رجلا وسيدتان، ليعطوا الله ورسوله بيعتهم، وليتفقوا مع النبي عليه الصلاة والسلام على الهجرة الى المدينة، أنهى الرسول الى عمه العباس نبأ هذا الوفد، وهذه البيعة.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يثق بعمه في رأيه كله..
ولما جاء موعد اللقاء الذي انعقد سرا وخفية، خرج الرسول وعمه العباس الى حيث الأنصار ينتظرون..
وأراد العباس ان يعجم عود القوم ويتوثق للنبي منهم..
ولندع واحدا من أعضاء الوفد يروي لنا النبأ، كما سمع ورأى.. ذلكم هو كعب بن مالك رضي الله عنه:
".. وجلسنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب.. وتكلم العباس فقال: يا معشر الخزرج، ان محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده، وانه أبى الا النحياز اليكم واللحوق بكم..
فان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك..
وان كنتم ترون أنكم مسلموه خاذلوه بعد خروجه اليكم، فمن الآن فدعوه"..
كان العباس يلقي بكلماته الحازمة هذه، وعيناه تحدقان كعيني الصقر في وجوه النصار.. يتتبع وقع الكلام وردود فعله العاجلة..
ولم يكتف العباس بهذا، فذكاؤه العظيم ذكاء عملي يتقصّى الحقيقة في مجالها المادي، ويواجه كل أبعادها مواجهة الحاسب الخبير..

هناك استأنف حديثه مع الأصار بسؤال ذكي ألقاه، ذلك هو:
" صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"!!؟؟
ان العباس بفطنته وتجربته مع قريش يدرك أن الحرب لا محالة قادمة بين الاسلام والشرك، فقريش لن تتنازل عن دينها ومجدها وعنادها.
والاسلام ما دام حقا لن يتنازل للباطل عن حقوقه المشروعة..
فهل الأنصار، أهل المدينة صامدون للحرب حين تقوم..؟؟
وهل هم من الناحية الفنية، أكفاء لقريش، يجيدون فنّ الكرّ والفرّ والقتال..؟؟
من اجل هذا ألقى سؤاله السالف:
" صفوا لي الحرب، كيف تقاتلون عدوّكم"..؟؟
كان الأنصار الذين يصغون للعباس رجالا كالأطواد...
ولم يكد العباس يفرغ من حديثه، لا سيما ذلك السؤال المثير الحافز حتى شرع الأنصار يتكلمون..
وبدأ عبدالله بن عمرو بن حرام مجيبا على السؤال:
" نحن، والله، أهل الحرب.. غذينا بها،ومرّنا عليها، وورثناها عن آبائنا كابرا فكابر..
نرمي بالنبل حتى تفنى..
ثم نطاعن بالرماح حتى تنكسر..
ثم نمشي بالسيوف، فنضارب بها حتى يموت الأعجل منا أو من عدونا"..!!
وأجاب العباس متهللا:
" أنتم أصحاب حرب اذن، فهل فيكم دروع"..؟؟
قالوا:
" نعم.. لدينا دروع شاملة"..
ثم دار حديث رائع وعظيم بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الأنصار.. حديث سنعرض له ان شاء الله فيما بعد.
**

هذا موقف العباس في بيعة العقبة..
وسواء عليه أكان يومئذ اعتنق الاسلام سرا، أم كان لا يزال يفكّر، فان موقفه العظيم هذا يحدد مكانه بين قوى الظلام الغارب، والشروق المقبل،
ويصوّر أبعاد رجولته ورسوخه..!!
ويوم يجيء حنين ليؤكد فداءية هذا الهادئ السمت، اللين الجانب، حينما تدعو الحاجة اليها، ويهيب المواقف بها، بينما هي في غير ذلك الظرف الملحّ، مستكنّة تحت الأضلاع، متوارية عن الأضواء..!!
**

في السنة الثامنة للهجرة، وبعد ان فتح الله مكة لرسوله ولدينه عز بعض القبائل السائدة في الجزيرة العربية أن يحقق الدين الجديد كل هذا النصر بهذه السرعة..
فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ونصر وجشم وآخرون. وققروا شنّ حرب حاسمة ضدّ الرسول والمسلمين..
ان كلمة قبائل لا ينبغي أن تخدعنا عن طبيعة تلك الحروب التي كان يخوضها الرسول طوال حياته. فنظن انها كانت مجرّد مناوشات جبلية صغيرة، فليس هناك حروب أشدّ ضراوة من حروب تلك القبائل في معاقلها..!!
وادراك هذه الحقيقة لا يعطينا تقديرا سديدا للجهد الخارق الذي بذله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحسب، بل يعطينا تقديرا صحيحا وأمينا لقيمة النصر العظيم الذي أحرزه الاسلام والمؤمنون، ورؤية واضحة لتوفيق الله الماثل في هذا النجاح وذلك الانتصار..

احتشدت تلك القبائل في صفوف لجبة من المقاتلين الأشدّاء..
وخرج اليهم المسلمون في اثني عشر ألفا..
اثنا عشر ألفا..؟؟
وممن..؟؟
من الذين فتحوا مكة بالأمس القريب، وشيعوا الشرك والأصنام الى هاويتها الأخيرة والسحيقة، وارتفعت راياتهم تملأ الأفق دون مشاغب عليها أو مزاحم لها..!!
هذا شيء يبعث الزهو..
والمسلمون في آخر المطاف بشر، ومن ثم، فقد ضعفوا امام الزهو الذي ابتعثته كثرتهم ونظامهم، وانتصارهم بمكة، وقالوا:
" لن نغلب اليوم عن قلة".
ولما كانت السماء تعدّهم لغاية أجلّ من الحرب وأسمى، فان ركونهم الى قوتهم العسكرية، وزهزهم بانتصارهم الحربي، عمل غير صالح ينبغي أن يبرؤا منه سريعا، ولو بصدمة شافية..
وكانت الصدمة الشافية هزيمة كبرى مباغتة في أول القتال، حتى اذا ضرعوا الى الله، وبرؤا من حولهم الى حوله، ومن قوتهم الى قوته، انقلبت الهزيمة نصرا، ونزل القرآن الكريم يقول للمسلمين:
(.. ويوم حنين اذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا، وضاقت الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين. ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، وأنزل جنودا لم تروها، وعذب الذين كفروا، وذلك جزاء الكافرين)..

كان صوت العباس يومئذ وثباته من ألمع مظاهر السكينة والاستبسال..
فبينما كان المسلمون مجتمعين في أحد أودية تهامة ينتظرون مجيء عدوّهم، كان المشركون قد سبقوهم الى الوادي وكمنوا لهم في شعابه وأحنائه، شاحذين أسلحتهم، ممسكين زمام المبادرة بأيديهم..
وعلى حين غفلة، انقضّوا على المسلمين في مفاجأة مذهلة، جعلتهم يهرعون بعيدا، لا يلوي أحد على أحد..
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه الهجوم المفاجئ الخاطف على المسلمين، فعلا صهوة بغلته البيضاء، وصاح:
" الى أين أيها الناس..؟؟
هلموا اليّ..
أنا النبي لا كذب..
انا ابن عبد المطلب"..
لم يكن حول النبي ساعتئذ سوى أبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، وولده الفضل بن العباس، وجعفر بن الحارث، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وقلة أخرى من الأصحاب..
وكان هناك سيدة أخذت مكانا عاليا بين الرجال والأبطال..
تلك هي أم سليم بنت ملحان..
رأت ذهول المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما، وهرولت بها نحو الرسول..
ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدّت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت الى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها الرسول وقال:
" أم سليم؟؟"..
قالت: " نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله..
اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فانهم لذلك أهل"..
وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول الواشق بوعد ربه وقال لها:
" ان الله قد كفى وأحسن يا أم سليم"..!!

هناك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف، كان العباس الى جواره، بل كان بين قدميه بخطام بغلته يتحدى الموت والخطر..
وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصرخ في الناس، وكان العباس جسيما جهوري الصوت، فراح ينادي:
" يا معشر الأنصار..
يا أصحاب البيعة"...
وكانما كان صوته داعي القدر ونذيره..
فما كاد يقرع أسماع المرتاعين من هول المفاجأة، المشتتين في جنبات الوادي، حتى أجابوا في صوت واحد:
" لبّيك.. لبّيك"..
وانقلبوا راجعين كالاعصار، حتى ان أحدهم ليحرن بعيره أو فرسه، فيقتحم عنها ويترجل، حاملا درعه وسيفه وقوسه، ميممّا صوب موت العباس..
ودارت المعركة من جديد.. ضارية، عاتية..
وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الآن حمي الوطيس"..
وحمي الوطيس حقا..
وتدحرج قتلى هوزان وثقيف، وغلبت خيل الله خيل اللات، وأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين..!!!
**

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب العباس عمه حبا كبيرا، حتى انه لم ينم يوم انتهت غزوة بدر، وقضى عمه ليله في الأسر..
ولم يخف النبي عليه السلام عاطفته هذه، فحين سئل عن سبب أرقه، وقد نصره الله نصرا مؤزرا أجاب:
" سمعت أنين العباس في وثاقه"..
وسمع بعض المسلمين كلمات الرسول، فأسرع الى مكان الأسرى، وحلّ وثاق العباس، وعاد فأخبر الرسول قائلا:
" يا رسول الله..
اني أرخيت من وثاق العباس شيئا"..
ولكن لماذا وثاق العباس وحده..؟
هنالك قال الرسول لصاحبه:
" اذهب، فافعل ذلك بالأسرى جميعا".
أجل فحب النبي صلى الله عليه وسلم لعمه لا يعني أن يميزه عن الناس الذين تجمعهم معه ظروف مماثلة..
وعندما تقرر أخذ الفدية من الأسرى، قال الرسول لعمه:
" يا عباس..
افد نفسك، وابن اخيك عقيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفك عتبة بن عمرو وأخا بني الحارث بن فهر، فانك ذومال"..
وأردا العباس أن يغادر أسره با فدية، قائلا:
" يا رسول الله، اني كنت مسلما، ولكن القوم استكرهوني"..
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أصرّ على الفدية، ونزل لقرآن الكريم في هذه المناسبة يقول:
" يا ايها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ان يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم، والله غفور رحيم".
وهكذا فدى العباس نفسه ومن معه، وقفل راجعا الى مكة.. ولم تخدعه قريش بعد ذلك عن عقله وهداه، فبعد حين جمع ماله وحمل متاعه، وأدرك الرسول بخيبر، ليأخذ مكانه في موكب الاسلام، وقافلة المؤمنين.. وصار موضع حب المسلمين واجلالهم العظيم، لا سيما وهم يرون تكريم الرسول له وحبه اياه وقوله عنه:
" انما العباس صنو أبي..
فمن آذى العباس فقد آذاني".
وأنجب العباس ذريّة مباركة.
وكان حبر الأمة عبدالله بن عباس واحدا من هؤلاء الأبناء المباركين.
**

وفي يوم الجمعة لأربع عشرة سنة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين سمع اهل العوالي بالمدينة مناديا ينادي:
" رحم الله من شهد العباس بن عبد المطلب".
فأدركوا أن العباس قد مات..
وخرج الناس لتشييعه في أعداد هائلة لم تعهد المدينة مثلها..
وصلى عليه خليفة المسلمين يومئذ عثمان رضي الله عنه.
وتحت ثرى البقيع هدأ جثمان أبي الفضل واستراح..
ونام قرير العين، بين الأبرار الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه!!
************************

عتبة بن غزوان - غدا ترون الأمراء من بعدي

من بين المسلمين السابقين، والمهاجرين الأولين الى الحبشة، فالمدينة..
ومن بين الرماة الأفذاذ الذين أبلوا في سبيل الله بلاء حسنا، هذا الرجل الفارع الطول، المشرق الوجه، المخبت القلب عتبة بن غزوان...
**

كان سابع سبعة سبقوا الى الاسلام، وبيطوا أيمانهم الى يمين الرسول صلى الله عليه وسلم، مبايعين ومتحدّين قريش بكل ما معها من بأس وقدرة على الانتقام..
وفي الأيام الأولى للدعوة.ز أيام العسرة والهول، صمد عتبة بن غزوان، مع اخوانه ذلك الصمود الجليل الذي صار فيما بعد زادا للضمير الانساني يتغذى به وينمو على مر الأزمان..
ولما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة الى الحبشة، خرج عتبة مع المهاجرين..
بيد أن شوقه الى النبي صلى الله عليه وسلم لم يدعه يستقر هناك، فسرعان ما طوى البرّ والبحر عائدا الى مكة، حيث لبث فيها بجوار الرسول حتى جاء ميقات الهجرة الى المدينة، فهاجر عتبة مع المسلمين..
ومنذ بدأت قريش تحرشاتها فحروبها، وعتبة حامل رماحه ونباله، يرمي بها في أستاذية خارقة، ويسهم مع اخوانه المؤمنين في هدم العالم القديم بكل أوثانه وبهتانه..
ولم يضع سلاحه يوم رحل عنهم الرسول الكريم الى الرفيق الأعلى، بل ظل يضرب في الأرض، وكان له مع جيوش الفرس جهاد عظيم..
**

أرسله أمير المؤمنين عمر الى الأبلّة ليفتحها، وليطهر أرضها من الفرس الذين كانوا يتخذونها نقطة وثوب خطرة على قوات الاسلام الزاحفة عبر بلاد الامبراطورية الفارسية، تستخلص منها بلاد الله وعباده..
وقال له عمر وهو يودّعه وجيشه:
" انطلق أنت ومن معك، حتى تأتوا أقصى بلاد العرب، وأدنى بلاد العجم..
وسر على بركة الله ويمنه..
وادع الى الله من أجابك.
ومن أبى، فالجزية..
والا فالسيف في غير هوادة..
كابد العدو، واتق الله ربك"..
**

ومضى عتبة على رأس جيشه الذي لم يكن كبيرا، حتى قدم الأبلّة..
وكان الفرس يحشدون بها جيشا من أقوى جيوشهم..
ونظم عتبة قواته، ووقف في مقدمتها، حاملا رمحه بيده التي لم يعرف الناس لها زلة منذ عرفت الرمي..!!
وصاح في جنده:
" الله أكبر، صدق وعده"..
وكأنه كان يقرأ غيبا قريبا، فما هي الا جولات ميمونة استسلمت بعدها الأبلّة وطهرت أرضها من جنود الفرس، وتحرر أهلها من طغيان طالما أصلاهم سعيرا.. وصدق الله العظيم وعده..!!
**

احتطّ عتبة مكان الأبلّة مدينة البصرة، وعمّرها وبنى مسجدها العظيم..
وأراد أن يغادر البلاد عائدا الى المدينة، هاربا من الامارة، لكن أمير المؤمنين أمره بالبقاء..
ولبث عتبة مكانه يصلي بالناس، ويفقههم في دينهم، ويحكم بينهم بالعدل، ويضرب لهم أروع المثل في الزهد والورع والبساطة...
ووقف يحارب الترف والسرف بكل قواه حتى ضجره الذين كانوا تستهويهم المناعم والشهوات..
هنالك وقف عتبة فيهم خطيبا فقال:
" والله، لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابع سبعة ومالنا طعام الا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا..
ولقد رزقت يوما بردة، فشققتها نصفين، أعطيت نصفها سعد بن مالك، ولبست نصفها الآخر"..
**

كان عتبة يخاف الدنيا على دينه أشد الخوف، وكان يخافها على المسلمين، فراح يحملهم على القناعة والشظف.
وحاول الكثيرون أن يحوّلوه عن نهجه، ويثيروا في نفسه الشعور بالامارة، وبما للامارة من حق، لا سيما في تلك البلاد التي لم تتعود من قبل أمراء من هذا اطراز المتقشف الزاهد، والتي تعود أهلها احترام المظاهر المتعالية المزهوّة.. فكان عتبة يجيبهم قائلا:
" اني أعوذ بالله أن أكون في دنياكم عظيما، وعند الله صغيرا"..!
ولما رأى الضيق على وجوه الناس بسبب صرامته في حملهم على الجادّة والقناعة قال لهم:
" غدا ترون الأمراء من بعدي"..
وجاء موسم الحج، فاستخلف على البصرة أحد اخوانه وخرج حاجا. ولما قضى حجه، سافر الى المدينة، وهناك سأل أمير المؤمنين أن يعفيه الامارة..
لكن عمر لم يكن يفرّط في هذا الطراز الجليل من الزاهدين الهاربين مما يسيل له لعاب البشر جميعا.
وكان يقول لهم:
" تضعون أماناتكم فوق عنقي..
ثم تتركوني وحدي..؟
لا والله لا أعفكيم أبدا"..!!
وهكذا قال لـ عتبة لغزوان..
ولما لم يكن في وسع عتبة الا الطاعة، فقد استقبل راحلته ليركبها راجعا الى البصرة.
لكنه قبل أن يعلو ظهرها، استقبل القبلة، ورفع كفّيه الضارعتين الى السماء ودعا ربه عز وجل ألا يردّه الى البصرة، ولا الى الامارة أبدا..
واستجيب دعاؤه..
فبينما هو في طريقه الى ولايته أدركه الموت..
وفاضت روحه الى بارئها، مغتبطة بما بذلت وأعطت..
وبما زهدت وعفت..
وبما أتم الله عليها من نعمة..
وبما هيأ لها من ثواب...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:17 pm

عبد الرحمن بن عوف - ما يبكيك يا أبا محمد

ذات يوم، والمدينة ساكنة هادئة، أخذ يقترب من مشارفها نقع كثيف، راح يتعالى ويتراكم حتى كاد يغطي الأفق.

ودفعت الريح هذه الأمواج من الغبار المتصاعد من رمال الصحراء الناعمة، فاندفعت تقترب من أبواب المدينة، وتهبّ هبوبا قويا على مسالكها.
وحسبها الناس عاصفة تكنس الرمال وتذروها، لكنهم سرعان ما سمعوا وراء ستار الغبار ضجة تنبئ عن قافلة كبيرة مديدة.

ولم يمض وقت غير وجيز، حتى كانت سبعمائة راحلة موقرة الأحمال تزحم شوارع المدينة وترجّها رجّا، ونادى الناس بعضهم بعضا ليروا مشهدها الحافل، وليستبشروا ويفرحوا بما تحمله من خير ورزق..
**

وسألت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ترتمت الى سمعها أصداء القافلة الزاحفة..
سألت: ما هذا الذي يحدث في المدينة..؟
وأجيبت: انها قافلة لعبدالرحمن بن عوف جاءت من الشام تحمل تجارة له..
قالت أم المؤمنين:
قافلة تحدث كل هذه الرّجّة..؟!
أجل يا ام المؤمنين.. انها سبعمائة راحلة..!!
وهزت أم المؤمنين رأسها، وأرسلت نظراتها الثاقبة بعيدا، كأنها تبحث عن ذكرى مشهد رأته، أو حديث سمعته..
"أما اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
رأيت عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا"..
**

عبدالرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا..؟
ولماذا لا يدخلها وثبا هرولة مع السابقين من أصحاب رسول الله..؟
ونقل بعض أصحابه مقالة عائشة اليه، فتذكر أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث أكثر من مرة، وبأكثر من صيغة.
وقبل أن تفضّ مغاليق الأحمال من تجارته، حث خطاه الى بيت عائشة وقال لها: لقد ذكّرتيني بحديث لم أنسه..

ثم قال:
" أما اني أشهدك أن هذه القافلة بأحمالها، وأقتابها، وأحلاسها، في سبيل الله عز وجل"..
ووزعت حمولة سبعمائة راحلة على أهل المدينة وما حولها في نهرجان برّ عظيم..!!
هذه الواقعة وحدها، تمثل الصورة الكاملة لحياة صاحب رسول الله عبدالرحمن بن عوف".
فهو التاجر الناجح، أكثر ما يكون النجاح وأوفاه..
وهو الثري، أكثر ما يكون الثراء وفرة وافراطا..
وهو المؤمن الأريب، الذي يأبى أن تذهب حظوظه من الدين، ويرفض أن يتخلف به ثراؤه عن قافلة الايمان ومثوبة الجنة.. فهو رضي الله عنه يجود بثروته في سخاء وغبطة ضمير..!!
**

متى وكيف دخل هذا العظيم الاسلام..؟
لقد أسلم في وقت مبكر جدا..
بل أسلم في الساعات الأولى للدعوة، وقبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم ويتخذها مقرا لالتقائه بأصحابه المؤمنين..
فهو أحد الثمانية الذن سبقوا الى الاسلام..
عرض عليه أبوبكر الاسلام هو وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، فما غمّ عليهم الأمر ولا أبطأ بهم الشك، بل سارعوا مع الصدّيق الى رسول الله يبايعونه ويحملون لواءه.
ومنذ أسلم الى أن لقي ربه في الخامسة والسبعين من عمره، وهو نموذج باهر للمؤمن العظيم، مما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يضعه مع العشرة الذين بشّرهم بالجنة.. وجعل عمر رضي الله عنه يضعه مع أصحاب الشورى الستة الذين جعل الخلافة فيهم من بعده قائلا:" لقد توفي رسول الله وهو عنهم راض".
وفور اسلام عبدالرحمن بن عوف حمل حظه المناسب، ومن اضطهاد قريش وتحدّياتها..
وحين أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهجرة الى الحبشة هاجر ابن عوف ثم عاد الى مكة، ثم هاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية ثم هاجر الى المدينة.. وشهد بدرا، وأحدا، والمشاهد كلها..
**

وكان محظوظا في التجارة الى حدّ أثار عجبه ودهشه فقال:
" لقد رأيتني، لو رفعت حجرا، لوجدت تحت فضة وذهبا"..!!
ولم تكن التجارة عند عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه شرها ولا احتكارا..
بل لم تكن حرصا على جمع المال شغفا بالثراء..
كلا..
انما كانت عملا، وواجبا يزيدهما النجاح قربا من النفس، ومزيدا من السعي..
وكان ابن عوف يحمل طبيعة جيّاشة، تجد راحتها في العمل الشريف حيث يكون..
فهو اذا لم يكن في المسجد يصلي، ولا في الغزو يجاهد فهو في تجارته التي نمت نموا هائلا، حتى أخذت قوافله تفد على المدينة من مصر، ومن الشام، محملة بكل ما تحتاج اليه جزيرة العرب من كساء وطعام..
ويدلّنا على طبيعته الجيّاشة هذه، مسلكه غداة هجر المسلمين الى المدينة..
لقد جرى نهج الرسول يومئذ على أن يؤاخي بين كل اثنين من أصحابه، أحدهما مهاجر من مكة، والآخر أنصاري من المدينة.
وكانت هذه المؤاخات تم على نسق يبهر الألباب، فالأنصاري من أهل المدينة يقاسم أخاه المهاجر كل ما يملك.. حتى فراشه، فاذا كان تزوجا باثنين طلق احداهما، ليتزوجها أخوه..!!
ويومئذ آخى الرسول الكريم بين عبدالرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع..
ولنصغ للصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه يروي لنا ما حدث:
" .. وقال سعد لعبدالرحمن: أخي، أنا أكثر أهل المدينة مالا، فانظر شطر مالي فخذه!!
وتحتي امرأتان، فانظر أيتهما أعجب لك حتى أطلقها، وتتزوجها..!
فقال له عبدالرحمن بن عوف:
بارك الله لك في أهلك ومال..
دلوني على السوق..
وخرج الى السوق، فاشترى.. وباع.. وربح"..!!
وهكذا سارت حياته في المدينة، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، أداء كامل لحق الدين، وعمل الدنيا.. وتجارة رابحة ناجحة، لو رفع صاحبها على حد قوله حجرا من مكانه لوجد تحته فضة وذهبا..!!
ومما جعل تجارته ناجحة مباركة، تحرّيه الحلال، ونأيه الشديد عن الحرام، بل عن الشبهات..
كذلك مما زادها نجاخا وبركة أنها لم تكن لعبدالرحمن وحده.. بل كان لله فيها نصيب أوفى، يصل به أهله، واخوانه، ويجهّز به جيوش الاسلام..

واذا كانت الجارة والثروات، انما تحصى بأعداد رصيدها وأرباحها فان ثروة عبدالرحمن بن عوف انما تعرف مقاديرها وأعدادها بما كان ينفق منها في سبيل الله رب العالمين..!!
لقد سمع رسول الله يقول له يوما:
" يا بن عوف انك من الأغنياء..
وانك ستدخل الجنة حبوا..
فأقرض الله يطلق لك قدميك"..
ومن سمع هذا النصح من رسول الله، وهو يقرض ربه قرضا حسنا، فيضاعفه له أضعافا كثيرة.
باع في يوم أرضا بأربعين ألف دينار، ثم فرّقها في أهله من بني زهرة، وعلى أمهات المؤمنين، وفقراء المسلمين.
وقدّم يوما لجيوش الاسلام خمسمائة فرس، ويوما آخر الفا وخمسمائة راحلة.
وعند موته، أوصى بخمسن ألف دينار في سبيل الله، وأ،صى لكل من بقي ممن شهدوا بدرا بأربعمائة دينار، حتى ان عثمان بن عفان رضي الله عنه، أخذ نصيبه من الوصية برغم ثرائه وقال:" ان مال عبدالرحمن حلال صفو، وان الطعمة منه عافية وبركة".
**

كان ابن عوف سيّد ماله ولم يكن عبده..
وآية ذلك أنه لم يكن يشقى بجمعه ولا باكتنازه..
بل هو يجمعه هونا، ومن حلال.. ثم لا ينعم به وحده.. بل ينعم به معه أهله ورحمه واخوانه ومجتمعه كله.
ولقد بلغ من سعة عطائه وعونه أنه كان يقال:
" أهل المدينة جميعا شركاء لابن عوف في ماله.
" ثلث يقرضهم..
وثلث يقضي عنهم ديونهم..
وثلث يصلهم ويعطيهم.."
ولم كن ثراؤه هذا ليبعث الارتياح لديه والغبطة في نفسه، لو لم يمكّنه من مناصرة دينه، ومعاونة اخوانه.
أما بعد هذا، فقد كان دائم الوجل من هذا الثراء..
جيء له يوما بطعام الافطار، وكان صائما..
فلما وقعت عيناه عليه فقد شهيته وبكى وقال:
" استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني، فكفّن في بردة ان غطت رأسه، بدت رجلاه، وان غطت رجلاه بدا رأسه.
واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يمفن فيه الا بردة.
ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وأعطينا منها ما أعطينا واني لأخشى أن نكون قد عجّلت لنا حسناتنا"..!!
واجتمع يوما نع بعض أصحابه على طعام عنده.
وما كاد الطعام يوضع أمامهم حتى بكى وسألوه:
ما يبكيك يا أبا محمد..؟؟
قال:
" لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شبع هو وأهل بيته من خبز الشعير..
ما أرانا أخرنا لم هو خير لنا"..!!
كذلك لم يبتعث ثراؤه العريض ذرة واحدة من الصلف والكبر في نفسه..
حتى لقد قيل عنه: انه لو رآه غريب لا يعرفه وهو جالس مع خدمه، ما استطاع أ، يميزه من بينهم..!!
لكن اذا كان هذا الغريب يعرف طرفا من جهاد ابن عوف وبلائه، فيعرف مثلا أنه أصيب يوم أحد بعشرين جراحة، وان احدى هذه الاصابات تركت عرجا دائما في احدى ساقيه.. كما سقطت يوم أحد بعض ثناياه. فتركت همّا واضحا في نطقه وحديثه..

عندئذ لا غير، يستطيع هذا الغريب أن يعرف أن هذا الرجل الفارع القامة، المضيء الوجه، الرقيق البشرة، الأعرج، الأهتم من جراء اصابته يوم أحد هو عبدالرحمن بن عوف..!!
رضي الله عنه وأرضاه..
**

لقد عوّدتنا طبائع البشر أن الثراء ينادي السلطة...
أي أن الأثرياء يحبون دائما أن يكون لهم نفوذ يحمي ثراءهم ويضاعفه، ويشبع شهوة الصلف والاستعلاء والأنانية التي يثيرها الثراء عادة..
فاذا رأينا عبدالرحمن بن عوف في ثرائه العريض هذا، رأينا انسانا عجبا يقهر طبائع البشر في هذا المجال ويتخطاها الى سموّ فريد..!
حدث ذلك عندما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجود بروحه الطاهرة، ويختار ستة رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليختاروا من بينهم الخليفة الجديد..
كانت الأصابع تومئ نحو ابن عوف وتشير..
ولقد فاتحه بعض الصحابة في أنه أحق الستة بالخلافة، فقال:
" والله، لأن تؤخذ مدية، فتوضع في حلقي، ثم ينفذ بها الى الجانب الآخر أحب اليّ من ذلك"..!!
وهكذا لم يكد الستة المختارون يعقدون اجتماعهم ليختاروا أحدهم خليفة بعد الفاروق عمر حتى أنبأ اخوانه الخمسة الآخرين أنه متنازل عن الحق الذي أضفاه عمر عليه حين جعله أحد الستة الذين يختار الخليفة منهم.. وأنّ عليهم أن يجروا عملية الاختيار بينهم وحدهم أي بين الخمسة الآخرين..
وسرعان ما أحله هذا الزهد في المنصب مكان الحكم بين الخمسة الأجلاء، فرضوا أن يختار هو الخليفة من بينهم، وقال الامام علي:
" لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفك بأنك أمين في أهل السماء، وأمين في أهل الأرض"..
واختار ابن عوف عثمان بن عفان للخلافة، فأمضى الباقون اختياره.
**

هذه حقيقة رجل ثري في الاسلام..
فهل رأيتم ما صنع الاسلام به حتى رفعه فوق الثرى بكل مغرياته ومضلاته، وكيف صاغه في أحسن تقويم..؟؟
وها هو ذا في العام الثاني والثلاثين للهجرة، يجود بأنفاسه..
وتريد أم المؤمنين عائشة أن تخصّه بشرف لم تختصّ به سواه، فتعرض عليه وهو على فراش الموت أن يدفن في حجرتها الى جوار الرسول وأبي بكر وعمر..
ولكنه مسلم أحسن الاسلام تأديبه، فيستحي أن يرفع نفسه الى هذا الجوار...!!
ثم انه على موعد سابق وعهد وثيق مع عثمان بن مظعون، اذ تواثقا ذات يوم: أيهما مات بعد الآخر يدفن الى جوار صاحبه..
**

وبينما كانت روحه تتهيأ لرحلتها الجديدة كانت عيناه تفيضان من الدمعو ولسانه يتمتم ويقول:
" اني أخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة ما كان لي من مال"..
ولكن سكينة الله سرعان ما تغشته، فكست وجهه غلالة رقيقة من الغبطة المشرقة المتهللة المطمئنة..
وأرهفت أذناه للسمع.. كما لو كان هناك صوت عذب يقترب منهما..
لعله آنئذ، كان يسمع صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم له منذ عهد بعيد:
" عبدالرحمن بن عوف في الجنة"..
ولعله كان يسمع أيضا وعد الله في كتابه..
( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى، لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)..
**************************
حبيب بن زيد - أسطورة فداء وحب

في بيعة العقبة الثانية التي مر بنا ذكرها كثيرا، والتي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم فيها سبعون رجلا وسيدتان من أهل المدينة، كان حبيب بن زيد وأبوه زيد بن عاصم رضي الله عنهما من السبعين المباركين..
وكانت أمه نسيبة بنت كعب أولى السيدتان اللتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
أم السيدة الثانية فكانت خالته..!!

هو اذن مؤمن عريق جرى الايمان في أصلابه وترائبه..
ولقد عاش الى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هجرته الى المدينة لا يتخلف عن غزوة، ولا يقعد عن واجب..
**

وذات يوم شهد جنوب الجزيرة العربية كذابين عاتيين يدّعيان النبوة ويسوقان الناس الى الضلال..
خرج أحدهما بصنعاء، وهو الأسود بن كعب العنسي..
وخرج الثاني باليمامة، وهو مسيلمة الكذاب..
وراح الكذابان يحرّضان الناس على المؤمنين الذين استجابوا لله، وللرسول في قبائلهما، ويحرّضان على مبعوثي رسول الله الى تلك الديار..
وأكثر من هذا، راحا يشوّشان على النبوة نفسها، ويعيثان في الأرض فسادا وضلالا..
**

وفوجئ الرسول يوما بمبعوث بعثه مسيلمة يحمل منه كتابا يقول فيه "من مسيلمة رسول الله، الى محمد رسول الله.. سلام عليك.. أم بعد، فاني قد أشركت في الأمر معك، وان لنا نصف الأرض، ولقريش نصفها، ولكنّ قريشا قوم يعتدون"..!!!
ودعا رسول الله أحد أصحابه الكاتبين، وأملى عليه ردّه على مسيلمة:
" بسم الله الرحمن الرحيم..
من محمد رسول الله، الى مسيلمة الكذاب.
السلام على من اتبع الهدى..
أما بعد، فان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين"..!!
وجاءت كلمات الرسول هذه كفلق الصبح. ففضحت كذاب بني حنيفة الذي ظنّ النبوّة ملكا، فراح يطالب بنصف الأرض ونصف العباد..!
وحمل مبعوث مسيلمة رد الرسول عليه السلام الى مسيلمة الذي ازداد ضلالا واضلالا..
**

ومضى الكذب ينشر افكه وبهتانه، وازداد أذاه للمؤمنين وتحريضه عليهم، فرأى الرسول أن يبعث اليه رسالة ينهاه فيها عن حماقاته..
ووقع اختياره على حبيب بن زيد ليحمله الرسالة مسيلمة..
وسافر حبيب يغذّ الخطى، مغتبطا بالمهمة الجليلة التي ندبه اليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنّيا نفسه بأن يهتدي الى الحق، قلب مسيلمة فيذهب حبيب بعظيم الأجر والمثوبة.
**

وبلغ المسافر غايته..
وفضّ مسيلمة الكذاب الرسالة التي أعشاه نورها، فازداد امعانا في ضلاله وغروره..
ولما لم يكن مسيلمة أكثر من أفّاق دعيّ، فقد تحلى بكل صفات الأفّاقين الأدعياء..!!
وهكذا لم يكن معه من المروءة ولا من العروبة والرجولة ما يردّه عن سفك دم رسول يحمل رسالة مكتوبة.. الأمر الذي كانت العرب تحترمه وتقدّسه..!!
وأراد قدر هذا الدين العظيم، الاسلام، أن يضيف الى دروس العظمة والبطولة التي يلقيها على البشرية بأسرها، درسا جديدا موضوعه هذه المرة، وأستاذه أيضا، حبيب بن زيد..!!
**

جمع الكذاب مسيلمة قومه، وناداهم الى يوم من أيامه المشهودة..
وجيء بمبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم، حبيب بن زيد، يحمل آثار تعذيب شديد أنزله به المجرمون، مؤملين أن يسلبوا شجاعة روحه، فيبدو امام الجميع متخاذلا مستسلما، مسارعا الى الايمان بمسيلمة حين يدعى الى هذا الايمان أمام الناس.. وبهذا يحقق الكذاب الفاشل معجزة موهومة أمام المخدوعين به..
**

قال مسيلمة لـ حبيب:
" أتشهد أن محمدا رسول الله..؟
وقال حيب:
نعم أشهد أن محمدا رسول الله.
وكست صفرة الخزي وجه مسيلمة وعاد يسألأ:
وتشهد أني رسول الله..؟؟
وأجاب حبيب في سخرية قاتلة:
اني لا أسمع شيئا..!!
وتحوّلت صفرة الخزي على وجه مسيلمة الى سواد حاقد مخبول..
لقد فشلت خطته، ولم يجده تعذيبه، وتلقى أمام الذين جمعهم ليشهدوا معجزته.. تلقى لطمة قوية أشقطت هيبته الكاذبة في الوحل..
هنالك هاج كالثور المذبوح، ونادى جلاده الذي أقبل ينخس جسد حبيب بسنّ سيفه..
ثم راح يقطع جسده قطعة قطعة، وبضعة بضعة، وعضوا عضوا..
والبطل العظيم لا يزيد على همهمة يردد بها نشيد اسلامه:
" لا اله الا الله محمد رسول الله"..
**

لو أن حبيبا أنقذ حياته يومئذ بشيء من المسايرة الظاهرة لمسيلمة، طاويا على الايمان صدره، لما نقض ايمانه شيئا، ولا أصاب اسلامه سوء..
ولكن الرجل الذي شهد مع أبيه، وأمه، وخالته، وأخيه بيعة العقبة، والذي حمل منذ تلك اللحظات الحاسمة المباركة مسؤولية بيعته وايمانه كاملة غير منقوصة، ما كان له أن يوازن لحظة من نهار بين حياته ومبدئه..
ومن ثمّ لم يكن أمامه لكي يربح حياته كلها مثل هذه الفرصة الفريدة التي تمثلت فيها قصة ايمانه كلها.. ثبات، وعظمة، وبطولة، وتضحية، واستشهاد في سبيل الهدى والحق يكاد يفوق في حلاوته، وفي روعته كل ظفر وكل انتصار..!!
**

وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم نبأ استشهاد مبعوثه الكريم، واصطبر لحكم ربه، غهو يرى بنور الله مصير هذا الكذاب مسيلمة، ويكاد يرى مصرعه رأي العين..
أما نسيبة بنت كعب أم حبيب فقد ضغطت على أسنانها طويلا، ثم أطلقت يمينا مبررا لتثأرن لولدها من مسيلمة ذاته، ولتغوصنّ في لحمه الخبيث برمحها وسيفها..
وكان القدر الذي يرمق آنئذ جزعها وصبرها وجلدها، يبدي اعجابا كبيرا بها، ويقرر في نفس الوقت أن يقف بجوارها حتى تبرّ بيمينها..!!
ودارت من الزمان دورة قصيرة.. جاءت على أثرها الموقعة الخالدة، موقعة اليمامة..
وجهّز أبو بكر الصدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الاسلام الذاهب الى اليمامة حيث أعدّ مسيلمة أضخم جيش..

وخرجت نسيبة مع الجيش..
وألقت بنفسها في خضمّ المعركة، في يمناها سيف، وفي يسراها رمح، ولسانها لا يكفّ عن الصياح:
" أين عدوّ الله مسيلمة".؟؟
ولما قتل مسيلمة، وسقط أتباعه كالعهن المنفوش، وارتفعت رايات الاسلام عزيزة ظافرة.. وقفت نسيبة وقد ملىء جسدها الجليل، القوي بالجراح وطعنات الرمح..
وقفت تستجلي وجه ولدها الحبيب، الشهيد حبيب فوجدته يملأ الزمان والمكان..!!
أجل..
ما صوّبت نسيبة بصرها نحو راية من الرايات الخفاقة المنتصرة الضاحكة الا رأت عليها وجه ابنها حبيب خفاقا.. منتصرا.. ضاحكا..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:18 pm

سعد بن عبادة - حامل راية الأنصار

لا يذكر سعد بن معاذ الا ويذكر معه سعد بن عبادة..

فالاثنان زعيما أهل المدينة..
سعد بن معاذ زعيم الأوس..
وسعد بن عبادة زعيم الخزرج..
وكلاهما أسلم مبكرا، وشهد بيعة العقبة، وعاش الى جوار رسول الله صلى اله عليه وسلم جنديا مطيعا، ومؤمنا صدوقا..

ولعلّ سعد بن عبادة ينفرد بين الأنصار جميعا بأنه حمل نصيبه من تعذيب قريش الذي كانت تنزله بالمسلمين في مكة..!!
لقد كان طبيعيا أن تنال قريش بعذابها أولئك الذين يعيشون بين ظهرانيها، ويقطنون مكة..
أما أن يتعرض لهذا العذاب رجل من المدينة.. وهو ليس بمجرد رجل.. بل زعيم كبير من زعمائها وساداتها، فتلك ميّزة قدّر لابن عبادة أن ينفرد بها..
وذلك بعد أن تمت بيعة العقبة سرا، وأصبح الأنصار يتهيئون للسفر، علمت قريش بما كان من مبايعة الأنصار واتفاقهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم الى الهجرة الى المدينة حيث يقفون معه ومن ورائه ضد قوى الشرك والظلام..
وجنّ جنون قريش فراحت تطارد الركب المسافر حتى أدركت من رجاله سعد بن عبادة فأخذه المشركون، وربطوا يديه الى عنقه بشراك رحله وعادوا به الى مكة، حيث احتشدوا حوله يضربونه وينزلون به ما شاءوا من العذاب..!!
أسعد بن عبادة يصنع به هذا..!؟
زعيم المدينة، الذي طالما أجار مستجيرهم، وحمى تجارتهم، وأكرم وفادتهم حين يذهب منهم الى المدينة ذاهب..؟؟
لقد كان الذين اعتقلوه، والذين ضربوه لا يعرفونه ولا يعرفون مكانته في قومه..
ولكن، أتراهم كانوا تاركيه لو عرفوه..؟
ألم ينالوا بتعذيبهم سادة مكة الذين أسلموا..؟؟
ان قريشا في تلك الأيام كانت مجنونة، ترى كل مقدرات جاهليتها تتهيأ للسقوط تحت معاول الحق، فلم تعرف سوى اشفاء أحقادها نهجا وسبيلا..
أحاط المشركون بسعد بن عبادة ضاربين ومعتدين..
ولندع سعدا يحكي لنا بقيّة النبأ:
".. فوالله اني لفي أيديهم اذ طلع عليّ نفر من قريش، فيهم رجل وضيء، أبيض، شعشاع من الجرال..
فقلت في نفسي: ان يك عند أحد من القوم خير، فعند هذا.
فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمة شديدة..
فقلت في نفسي: لا والله، ما عندهم بعد هذا من خير..!!
فوالله اني لفي أيديهم يسحبونني اذ أوى اليّ رجل ممن كان معهم فقال: ويحك، اما بينك وبين أحد من قريش جوار..؟
قلت: بلى.. كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة، وأمنعهم ممن يريد ظلمهم ببلادي، وكنت أجير للحارث بن حرب بن أميّة..
قال الرجل: فاهتف باسم الرجلين، واذكر ما بينك وبينهما من جوار، ففعات..
وخرج الرجل اليهما، فأنبأهما أن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح، وهو يهتف باسميهما، ويذكر أن بينه وبينهما جوارا..
فسألاه عن اسمي.. فقال سعد بن عبادة..
فقالا: صدقا والله، وجاءا فخلصاني من أيديهم".

غادر سعد بعد هذا العدوان الذي صادفه في أوانه ليعلم كم تتسلح قريش بالجريمة ضدّ قوم عزل، يدعون الى الخير، والحق والسلام..
ولقد شحذ هذا العدوان، وقرر أن يتفانى في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصحاب والاسلام..
**

ويهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة.. ويهاجر قبله أصحابه..
وهناك سخّر سعد أمواله لخدمة المهاجرين..
كان سعد جوادا بالفطرة وبالوراثة..
فهو ابن عبادة بن دليم بن حارثة الذي كانت شهرة جوده في الجاهلية أوسع من كل شهرة..
ولقد صار جود سعد في الاسلام آية من آيات ايمانه القوي الوثيق..
قال الرواة عن جوده هذا:
" كانت جفنة سعد تدور مع النبي صلى اله عليه وسلم في بيوته جميعا"..
وقالوا:
" كان الرجل من الأنصار ينطلق الى داره، بالواحد من المهاجرين، أو بالاثنين، أو بالثلاثة.
وكان سعد بن عبادة ينطلق بالثمانين"..!!
من أجل هذا، كان سعد يسأل ربه دائما المزيد من خره ورزقه..
وكان يقول:
" اللهم انه لا يصلحني القليل، ولا أصلح عليه"..!!
ون\من أجل هذا كان خليقا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له:
" اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة"..
**

ولم يضع سعد ثروته وحدها في خدمة الاسلام الحنيف، بل وضع قوته ومهارته..
فقد كان يجيد الرمي اجادة فائقة.. وفي غزواته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت فدائيته حازمة وحاسمة.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما:
" كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المواطن كلها رايتان..
مع علي ابن أبي طالب راية المهاجرين..
ومع سعد بن عبادة، راية الأنصار"..
**

ويبدو أن الشدّة كانت طابع هذه الشخصية القوية..
فهو شديد في الحق..
وشديد في تشبثه بما يرى لنفسه من حق..
واذا اقتنع بأمر نهض لاعلانه في صراحة لا تعرف المداراة، وتصميم لا يعرف المسايرة..
وهذه الشدة، أ، هذا التطرّف، هو الذي دفع زعيم الأنصار الكبير الى مواقف كانت عليه أكثر مما كانت له..
**

فيوم فتح مكة، جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أميرا على فيلق من جيوش المسلمين..
ولم يكد يشارف أبواب البلد الحرام حتى صاح:
" اليوم يوم الملحمة..
اليوم تستحل الحرمة"..
وسمعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسارع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:
" يا رسول الله..
اسمع ما قال سعد بن عبادة..
ما نأمن أن يكون له في قريش صولة"..
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليّا أن يدركه، ويأخذ الراية منه، ويتأمّر مكانه..
ان سعدا حين رأى مكة مذعنة مستسلمة لجيش الاسلام الفاتح.. تذكّر كل صور العذاب الذي صبّته على المؤمنين، وعليه هو ذات يوم..
وتذكر الحروب التي سنتها على قوم ودعاة.. كل ذنبهم أنهم يقولون: لا اله الا الله، فدفعته شدّته الى الشماتة بقريش وتوعدها يوم الفتح العظيم..

**

وهذه الشدة نفسها،أو قل هذا التطرّف الذي كان يشكل جزءا من طبيعة سعد هو الذي جعله يقف يوم السقيفة موقفه المعروف..
فعلى أثر وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، التف حوله ح\جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة منادين بأن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار..
كانت خلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفا لذويه في الدنيا والآخرة..
ومن ثم أراد هذا الفريق من الأنصار أن ينالوه ويظفروا به..
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف أبا بكر على الصلاة أثناء مرضه، وفهم الثحابة من هذا الاستخلاف الذي كان مؤيدا بمظاهر أخرى أضفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الى أبي بكر.. ثاني اثنين اذ هما في الغار..
نقول: فهموا أن أبا بكر أحق بالخلافة من سواه..
وهكذا تزعّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الرأي واستمسك به في حين تزعم سعد بن عبادة رضي الله عنه، الرأي الآخر واستمسك به، مما جعل كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم يأخذون عليه هذا الموقف الذي كان موضع رفضهم واستنكارهم..
**

ولكن سعد بن عبادة بموقفه هذا، كان يستجيب في صدق لطبيعته وسجاياه..
فهو كما ذكرنا شديد التثبت باقتناعه، وممعن في الاصرار على صراحته ووضوحه..
ويدلنا على هذه السجيّة فيه، موقفه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد غزوة حنين..
فحين انتهى المسلمون من تلك الغزوة ظافرين، راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوزع غنائمها على المسلمين.. واهتم يومئذ اهتماما خاصا بالمؤلفة قلوبهم، وهم أولئك الأشراف الذين دخلوا الاسلام من قريب، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يساعدهم على أنفسهم بهذا التألف، كما أعطى ذوي الحاجة من المقاتلين.
وأما أولو الاسلام المكين، فقد وكلهم الى اسلامهم، ولم يعطهم من غنائم هذه الغزوة شيئا..
كان عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجرّد عطائه، شرفا يحرص عليه جميع الناس..
وكانت غنائم الحرب قد أصبحت تشكّل دخلا هاما تقوم عليه معايش المسلمين..
وهكذا تساءل الأنصار في مرارة: لماذا لم يعطهم رسول الله حظهم من الفيء والغنيمة..؟؟
وقال شاعرهم حسان بن ثابت:
وأت الرسول فقل يا خير مؤتمن
للمؤمنين اذا ما عدّد البشر
علام تدعى سليم، وهي نازحة
قدّام قوم، هموا آووا وهم نصروا
سمّاهم الله الأنصار بنصرهم
دين الهدى، وعوان الحرب تستعير
وسارعوا في سبيل الله واعترفوا
للنائبات، وما جاموا وما ضجروا
ففي هذه الأبيات عبّر شاعر الرسول والأنصار عن الحرج الذي أحسّه الأنصار، اذ أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة، ولم يعطهم شيئا.
ورأى زعيم الأنصار سعد بن عبادة.. وسمع قومه يتهامس بعضهم بهذا الأمر، فلم يرضه هذا الموقف، واستجاب لطبيعته الواضحة المسفرة الصريحة، وذهب من فوره الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
" يا رسول الله..
ان هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت..
قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء"..
هكذا قال الرجل الواضح كل ما في نفسه، وكل ما في أنفس قومه.. وأعطى الرسول صورة أمينة عن الموقف..
وسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" وأين أنت من ذلك يا سعد"..؟؟
أي اذا كان هذا رأي قومك، فما رايك أنت..؟؟
فأجاب سعد بنفس الصراحة قائلا:
" ما أنا الا من قومي"..
هنالك قال له النبي:" اذن فاجمع لي قومك"..
ولا بدّ لنا من أن نتابع القصة الى نهايتها، فان لها روعة لا تقاوم..!
جمع سعد قومه من الأنصار..
وجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتملّى وجوههم الآسية. وابتسم ابتسامة متألقة بعرفان جميلهم وتقدير صنيعهم..
ثم قال:
" يا معشر الأنصار..
مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم..؟؟
ألم آتكم ضلالا فهداكم الله..؟؟
وعالة، فأغناكم الله..؟
وأعداء، فألف الله بين قلوبكم..؟؟"
قالوا:
" بلى الله ورسوله أمنّ وأفضل..
قال الرسول:
ألا تجيبونني يا معشر الأنصار..؟
قالوا:
بم نجيبك يا رسول الله..؟؟
لله ولرسوله المن والفضل..
قال الرسول:
أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم وصدّقتم:
أتيتنا مكذوبا، فصدّقناك..
ومخذولا، فنصرناك...
وعائلا، فآسيناك..
وطريدا، فآويناك..
أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا، ووكلتم الى اسلامكم..؟؟
ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا أنتم برسول الله الى رحالكم..؟؟
فوالذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار..
ولو سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار..
اللهم ارحم الأنصار..
وأبناء الأنصار..
وأبناء أبناء الأنصار"...!!
هنالك بكى الأنصار حتى أخضلوا لحاهم.
فقد ملأت كلمات الرسول الجليل العظيم أفئدتهم سلاما، وأرواحهم ثراء، وأنفسهم عافية..
وصاحوا جميعا وسعد بن عبادة معهم:
" رضينا برسول الله قسما وحظا"..
**

وفي الأيام الأولى من خلافة عمر ذهب سعد الى أمير المؤمنين، وبنفس صراحته المتطرفة قال له:
" كان صاحبك أبو بكر،والله، أحب الينا منك..
وقد ،والله، أصبحت كارها لجوارك"..!!
وفي هدوء أجابه عمر:
" ان من كره جوار جاره، تحوّل عنه"..
وعاد سعد فقال:
" اني متحوّل الى جوار من هو خير منك"..!!
**

ما كان سعد رضي الله عنه بكلماته هذه لأمير المؤمنين عمر ينفّس عن غيظ، أو يعبّر عن كراهية..
فان من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما وحظا، لا يرفض الولاء لرجل مثل عمر، طالما رآه موضع تكريم الرسول وحبّه..
انما أراد سعد وهو واحد من الأصحاب الذين نعتهم القرآن بأنهم رحماء بينهم..
ألا ينتظر ظروفا، قد تطرأ بخلاف بينه وبين أمير المؤمنين، خلاف لا يريده، ولا يرضاه..
**

وشدّ رحاله الى الشام..
وما كاد يبلغها وينزل أرض حوران حتى دعاه أجله، وأفضى الى جوار ربه الرحيم..
*****************************

عبدالله بن عمرو بن العاص - القانت الأوّاب

القانت، التائب، العابد، الأواب، الذي نستها الحديث عنه الآن هو: عبدالله بن عمرو بن العاص..
بقجر ما كان أبوه أستاذا في الدكاء والدهاء وسعة الحيلة.. كان هو أستاذا ذا مكانة عالية بين العابدين الزاهدين، الواضحين..
لقد أعطى العبادة وقته كله، وحياته ملها..

وثمل بحلاوة الايمان، فلم يعد الليل والنهار يتسعان لتعبّده ونسكه..
**

ولقد سبق أباه الى الاسلام، ومنذ وضع يمينه في يمين الرسول صلى الله عليه وسلم مبايعا، وقلبه مضاء كالصبح النضير بنور الله ونور طاعته..
عكف أولا على القرآن الذي كان يتنزل منجّما، فكان كلما نزلت منه آيات حفظها وفهمها، حتى اذا تمّ واكتمل، كان لجميعه حافظا..
ولم يكن يحفظه ليكون مجرّد ذاكرة قوية، تضمّ بين دفتيها كتابا محفوظا..
بل كان يحفظه ليعمر به قلبه، وليكون بعد هذا عبده المطيع، يحلّ ما أحلّ، ويحرّم ما يحرّم، ويتجيب له في كل ما يدعو اليه ثم يعكف على قراءته، وتدبّره وترتيله، متأنقا في روضاته اليانعات، محبور النفس بما تفيئه آياته الكريمة من غبطة، باكي العين بما تثيره من خشية..!!
كان عبدالله قد خلق ليكون قد
قدّيسا عابدا، ولا شيء في الدنيا كان قادرا على أن يشغله عن هذا الذي خلق له، وهدي اليه..
اذا خرج جيش الاسلام الى جهاد يلاقي فيه المشركين الذين يشنون عليه لحروب والعداوة، وجدناه في مقدمة الصفوف يتمنى الشهادة بروح محب، والحاح عاشق..!!

فاذا وضعت الحرب أوزارها، فأين نراه..؟؟
هناك في المسجد الجامع، أو في مسجد داره، صائم نهاره، قائم ليله، لا يعرف لسانه حديثا من أحاديث الدنيا مهما يكن حلالا، انما هو رطب دائما بذكر الله، تاليا قرآنه، أو مسبّحا بحمده، أو مستغفرا لذنبه..
وحسبنا ادراكا لأبعاد عبادته ونسكه، أن نرى الرسول الذي جاء يدعو الناس الى عبادة الله. يجد نفسه مضطرا للتدخل كما يحد من ايغال عبدالله في العبادة..!!
وهكذا اذا كان أحد وجهي العظة في حياة عبدالله بن عمرو، الكشف عما تزخر به النفس الانسانية من قدرة فائقة على بلوغ أقضى درجات التعبّد والتجرّد والصلاح، فان وجهها الآخر هو حرص الدين على القصد والاعتدال في نشدان كل تفوّق واكتمال، حتى يبقى للنفس حماستها وأشواقها..
وحتى تبقى للجسد عافيته وسلامته..!!
لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبدالله بن عمرو بن العاص يقضي حياته على وتيرة واحدة..
وما لم يكن هناك خروج في غزوة فان أيامه كلها تتلخص في أنه من الفجر الى الفجر في عبادة موصولة، صيام وصلاة، وتلاوة قرآن..
فاستدعاه النبي اليه، وراح يدعوه الى القصد في عبادته..
قال له الرسول عليه الصلاة والسلام:
" ألم اخبر أنك تصوم الناهر، ولا تفطر، وتصلي الليل لا تنام..؟؟
فحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام..
قال عبدالله:
اني أطيق أكثر من ذلك..
قال النبي صلى الله عليه وسلم:
فحسبك ان تصوم من كل جمعة يومين..
قال عبدالله:
فاني أطيق أكثر من ذلك..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فهل لك اذن في خير الصيام، صيام داود، كان يصوم يوما ويفطر يوما..
وعاد الرسول عليه الصلاة والسلام يسأله قائلا:
وعلمت أنك تجمع القرآن في ليلة
واني أخشى أن يطول بك العمر
وأن تملّ قراءته..!!
اقرأه في كل شهر مرّة..
اقرأه في كل عشرة أيام مرّة..
اقرأه في كل ثلاث مرّة..
ثم قال له:
اني أصوم وأفطر..
وأصلي وأنام.
وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي
فليس مني".
ولقد عمّر عبدالله بن عمرو طويلا.. ولما تقدمت به السن ووهن منه العظم كان يتذكر دائما نصح الرسول فيقول:
" يا ليتني قبلت رخصة رسول الله"..
**

ان مؤمنا من هذا الطراز ليصعب العثور عليه في معركة تدور رحاها بين جماعتين من المسلمين.
فكيف حملته ساقاه اذن من المدينة الى صفين حيث أخذ مكانا في جيش معاوية في صراعه مع الامام علي..؟
الحق أن موقف عبدالله هذا، جدير بالتدبّر، بقدر ما سيكون بعد فهمنا له جديرا بالتوقير والاجلال..

رأينا كيف كان عبدالله بن عمرو مقبلا على العبادة اقبالا كاد يشكّل خطرا حقيقيا على حياته، الأمر الذي كان يشغل بال أبيه دائما، فيشكوه الى رسول الله كثيرا.
وفي المرة الأخيرة التي امره الرسول فيها بالقصد في العبادة وحدد له مواقيتها كان عمرو حاضرا، فأخذ الرسول يد عبدالله، ووضعها في يد عمرو ابن العاص أبيه.. وقال له:
" افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
وعلى الرغم من أن عبدالله، كان بدينه وبخلق، مطيعا لأبويه فقد كان أمر الرسول له بهذه الطريقة وفي هذه المناسبة ذا تأثير خاص على نفسه.
وعاش عبدالله بن عمرو عمره الطويل لا ينسى لحظة من نهار تلك العبارة الموجزة.
" افعل ما أمرتك، وأطع أباك".
**

وتتابعت في موكب الزمن أعوام وأيام
ورفض معاوية بالشام أن يبايع عليا..
ورفض علي أن يذعن لتمرّد غير مشروع.
وقامت الحرب بين طائفتين من المسلمين.. ومضت موقعة الجمل.. وجاءت موقعة صفين.
كان عمر بن العاص قد اختار طريقه الى جوار معاوية وكان يدرك مدى اجلال المسلمين لابنه عبدالله ومدى ثقتهم في دينه، فأراد أن يحمله على الخروج ليكسب جانب معاوية بذلك الخروجكثيرا..
كذلك كان عمرو يتفاءل كثيرا بوجود عبدالله الى جواره في قتا، وهو لا ينسى بلاءه معه في فتوح الشام، ويوم اليرموك.
فحين همّ بالخروج الى صفين دعاه اليه وقال له:
يا عبدالله تهيأ للخروج، فانك ستقاتل معنا..
وأجابه عبدالله:
" كيف وقد عهد اليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أضع سيفا في عنق مسلم أبدا..؟؟
وحاول عمرو بدهائه اقناعه بأنهم انما يريدون بخروجهم هذا أن يصلوا الى قتلة عثمان وأن يثأروا لدمه الزكيّ.
ثم ألقى مفاجأته الحاسمة قائلا لولده:
" أتذكر يا عبدالله، آخر عهد عهده رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أخذ بيدك فوضعها في يدي وقال لك: أطع أباك؟..
فاني أعزم عليك الآن أن تخرج معنا وتقاتل".
وخرج عبدالله بن عمرو طاعة لأبيه، وفي عزمه الا يحمل سيفا ولا يقا مسلما..
ولكن كيف يتم له هذا..؟؟
حسبه الآن أن يخرج مع أبيه.. أما حين تكون المعركة فلله ساعتئذ امر يقضيه..!
ونشب القتال حاميا ضاريا..

ويختاف المؤرخون فيما اذا كان عبدالله قد اشترك في بدايته أم لا..
ونقول: بدايته.. لأن القتال لم يلبث الا قليلا، حتى وقعت واقعة جعلت عبدالله بن عمرو يأخذ مكانه جهارا ضدّ الحرب، وضدّ معاوية..
وذلك ان عمّار بن ياسر كان يقاتل مع عليّ وكان عمّار موضع اجلال مطلق من أصحاب الرسول.. وأكثر من هذا، فقد تنبأ في يوم بعيد بمصرعه ومقتله.
كان ذلك والرسول وأصحابه يبنون مسجدهم بالمدينة اثر هجرتهم اليها..
وكانت الأحجار عاتية ضخمة لا يطيق أشد الناس قوة أن يحمل منها أكثر من حجر واحد.. لكن عمارا من فرط غبطته وتشوته، راح يحمل حجرين حجرين، وبصر به الرسول فتملاه بعينين دامعتين وقال:
" ويح ابن سميّة، تقتله الفئة الباغية".
سمع كل اصحاب رسول الله المشتركين في البناء يومئذ هذه النبوءة، ولا يزالون لها ذاكرين.
وكان عبدالله بن عمر أحد الذين سمعوا.
وفد بدء القتال بين جماعة عليّ وجماعة معاوية، كان عمّار يصعد الروابي ويحرّض بأعلى صوته ويصيح.
" اليوم نلقى الأحبة، محمدا وصحبه".
وتواصى بقتله جماعة من جيش معاوية، فسددوا نحوه رمية آثمة، نقلته الى عالم الشهداء الأبرار.
وسرى النبأ كالريح أن عمّار قد قتل..
وانقضّ عبدالله بن عمرو ثائرا مهتاجا:
أوقد قتل عمار..؟
وأنتم قاتلوه..؟
اذن انتم الفئة الباغية.
أنتم المقاتلون على ضلالة..!!
وانطلق في جيش معاوية كالنذير، يثبط عزائمهم، ويهتف فيهم أنهم بغاة، لأنهم قتلوا عمارا وقد تنبأ له الرسول منذ سبع وعشرين سنة على ملأ من المسلمين بأنه ستقتله الفئة الباغية..

وحملت مقالة عبدالله الى معاوية، ودعا عمرا وولده عبدالله، وقال لعمرو:
" ألا تكف عنا مجنونك هذا..؟
قال عبدالله:
ما أنا بمجنون ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: تقتلك الفئة الباغية.
فقال له معاوية:
فلم خرجت معنا:؟
قال عبدالله:
لأن رسول الله أمرني أن أطيع أبي، وقد أطعته في الخروج، ولكني لا أقاتل معكم.
واذ هما يتحاوران دخل على معاوية من يستأذن لقاتل عمار في الدخول، فصاح عبدالله بن عمرو:
ائذن له وبشره بالنار.
وأفلتت مغايظ معوية على الرغم من طول أناته، وسعة حلمه، وصاح بعمرو: أو ما تسمع ما يقول..
وعاد عبدالله في هدوء المتقين واطمئنانهم، يؤكد لمعاوية أنه ما قال الا الحق، وأن الذين قتلوا عمارا ليسوا الا بغاة..
والتفت صوب أبيه وقال:
لولا أن رسول الله أمرني بطاعتك ما سرت معكم هذا المسير.
وخرج معاوية وعمرو يتفقدان جيشهما، فروّعا حين سمعوا الناس جميعا يتحدثون عن نبوءة الرسول لعمار:
تقتلك الفئة الباغية.
وأحس عمرو ومعاوية أن هذه المهمة توشك أن تتحول الى نكوص عن معاوية وتمرّد عليه.. ففكرا حتى وجدا حيلتهما التي مضيا يبثانها في الناس..
قالا:
نعم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار ذات يوم:
تقتلك الفئة الباغية..
ونبوءة الرسول حق..
وها هو ذا عمار قد قتل..
فمن قتله..؟؟
انما قتله الذين خرجوا به، وحملوه معهم الى القتال"..!!
وفي مثل هذا الهرج يمكن لأي منطق أن يروّج، وهكذا راج منطق معاوية وعمرو..
واستأنف الفريقان القتال..
وعاد عبدالله بن عمرو الى مسجده، وعبادته..
**

وعاش حياته لا يملؤها بغير مناسكه وتعبّده..
غير أن خروجه الى صفين مجرّد خروجه، ظل مبعوث قلق له على الدوام.. فكان لا تلم به الذكرى حتى يبكي ويقول:
" مالي ولصفين..؟؟
مالي ولقتال المسلمين"..؟
**

وذات يوم وهو جالس في مسجد الرسول مع بعض أصحابه مرّ بهم الحسين بن علي رضي الله عنهما، وتبادلا السلام..
ولما مضى عنهم قال عبدالله لمن معه:
" أتحبون أن أخبركم بأحب أهل الأرض الى أهل السماء..؟
انه هذا الذي مرّ بنا الآن.ز الحسين بن علي..
وانه ما كلمني منذ صفين..
ولأن يرضى عني أحب اليّ من حمر النعم"..!!
واتفق مع أبي سعيد الخدري على زيارة الحسين..
وهناك في دار الحسين تم لقاء الأكرمين..
وبدأ عبدالله بن عمرو الحديث، فأتى على ذكر صفين فسأله الحسين معاتبا:
" ما الذي حملك على الخروج مع معاوية"..؟؟
قال عبدالله:
" ذات يوم شكاني عمرو بن العاص الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له:
" ان عبدالله يصوم النهار كله، ويقوم الليل كله.
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا عبدالله صل ونم.. وصم وافطر.. وأطع أباك..
ولما كان يوم صفين أقسم عليّ أبي أن أخرج معهم، فخرجت..
ولكن والله ما اخترطت سيفا، ولا طعنت برمح، ولا رميت بسهم"..!!
وبينما هو يتوقل الثانية والسبعين من عمره المبارك..
واذ هو في مصلاه، يتضرّع الى ربه، ويسبّح بحمده دعي الى رحلة الأبد، فلبى الدعاء في شوق عظيم..
والى اخوانه الذين سبقوه بالحسنى، ذهبت روحه تسعى وتطير..
والبشير يدعوها من الرفيق الأعلى:
( يا أيتها النفس المطمئنة..
ارجعي الى ربك راضية مرضية
فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)..
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:20 pm

عباد بن بشر - معه من الله نور

عندما نزل مصعب بن عمير المدينة موفدا من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعلم الأنصار الذين بايعوا الرسول على الاسلام، وليقيم بهم الصلاة، كان عباد بن بشر رضي الله عنه واحدا من الأبرار الذين فتح الله قلوبهم للخير، فأقبل على مجلس مصعب وأصغى اليه ثم بسط يمينه يبايعه على الاسلام، ومن يومئذ أخذ مكانه بين الأنصار الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه..
وانتقل النبي الى المدينة مهاجرا، بعد أن سبقه اليها المؤمنون بمكة.

وبدأت الغزوات التي اصطدمت فيها قوى الخير والنور مع قوى الظلام والشر.
وفي تلك المغازي كان عباد بن بشر في الصفوف الأولى يجاهد في سبيل الله متفانيا بشكل يبهر الألباب.
**

ولعل هذه الواقعة التي نرويها الآن تكشف عن شيء من بطولة هذا المؤمن العظيم..
بعد أن فرغ رسول الله والمسلمين من غزوة ذات الرقاع نزلوا مكانا يبيتون فيه، واختار الرسول للحراسة نفرا من الصحابة يتناوبونها وكان منهم عمار بن ياسر وعباد بن بشر في نوبة واحدة.
ورأى عباد صاحبه عمار مجهدا، فطلب منه أن ينام أول الليل على أن يقوم هو بالحراسة حتى يأخذ صاحبه من الراحة حظا يمكنه من استئناف الحراسة بعد أن يصحو.
ورأى عباد أن المكان من حوله آمن، فلم لا يملأ وقته اذن بالصلاة، فيذهب بمثوبتها مع مثوبة الحراسة..؟!
وقام يصلي..
واذ هو قائم يقرأ بعد فاتحة الكتاب سور من القرآن، احترم عضده سهم فنزعه واستمر في صلاته..!
ثم رماه المهاجم في ظلام الليل بسهم ثان نزعه وأنهى تلاوته..
ثم ركع، وسجد.. وكانت قواه قد بددها الاعياء والألم، فمدّ يمينه وهو ساجد الى صاحبه النائم جواره، وظل يهزه حتى استيقظ..
ثم قام من سجوده وتلا التشهد.. وأتم صلاته.
وصحا عمار على كلماته المتهدجة المتعبة تقول له:
" قم للحراسة مكاني فقد أصبت".
ووثب عمار محدثا ضجة وهرولة أخافت المتسللين، ففرّوا ثم التفت الى عباد وقال له:
" سبحان الله..
هلا أيقظتني أوّل ما رميت"؟؟
فأجابه عباد:
" كنت أتلو في صلاتي آيات من القرآن ملأت نفسي روعة فلم أحب أن أقطعها.
ووالله، لولا أن أضيع ثغرا أمرني الرسول بحفظه، لآثرت الموت على أن أقطع تلك الآيات التي كنت أتلوها"..!!
**

كان عباد شديد الولاء والحب لله، ولرسوله ولدينه..
وكان هذا الولاء يستغرق حياته كلها وحسه كله.
ومنذ سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطبا الأنصار الذين هو منهم:
" يا معشر الأنصار..
أنتم الشعار، والناس الدثار..
فلا أوتيّن من قبلكم".

نقول منذ سمع عباد هذه الكلمات من رسوله، ومعلمه، وهاديه الى الله، وهو يبذل روحه وماله وحياته في سبيل الله وفي سبيل رسوله..
في مواطن التضحية والموت، يجيء دوما أولا..
وفي مواطن الغنيمة والأخذ، يبحث عنه أصحابه في جهد ومشقة حتى يجدوه..!
وهو دائما: عابد، تستغرقه العبادة..
بطل، تستغرقه البطولة..
جواد، يستغرقه الجود..
مؤمن قوي نذر حياته لقضية الايمان..!!
وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
" ثلاثة من الأنصار لم يجاوزهم في الفضل أحد:
" سعد بن معاذ..
وأسيد بن خضير..
وعبّاد بن بشر...
**

وعرف المسلمون الأوائل عبادا بأنه الرجل الذي معه نور من الله..
فقد كانت بصيرته المجلوّة المضاءة تهتدي الى مواطن الخير واليقين في غير بحث أو عناء..
بل ذهب ايمان اخوانه بنوره الى الحد الذي أسبغوا عليه في صورة الحس والمادة، فأجمعوا على ان عبادا كان اذا مشى في الظلام انبعثت منه أطياف نور وضوء، تضيء له الطريق..
**

وفي حروب الردة، بعد وفاة الرسول عليه السلام، حمل عباد مسؤولياته في استبسال منقطع النظير..
وفي موقعة اليمامة التي واجه المسلمون فيها جيشا من أقسى وأمهر الجيوش تحت قيادة مسيلمة الكذاب أحسّ عبّاد بالخطر الذي يتهدد الاسلام..
وكانت تضحيته وعنفوانه يتشكلان وفق المهام التي يلقيها عليه ايمانه، ويرتفعان الى مستوى احساسه بالخطر ارتفاعا يجعل منه فدائيا لا يحرص على غير الموت والشهادة..
**

وقبل أن تبدأ معركة اليمامة بيوم، رأى في منامه رؤيا لم تلبث أن فسرت مع شمس النهار، وفوق أرض المعركة الهائلة الضارية التي خاضها المسلمون..
ولندع صحابيا جليلا هو أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يقص علينا الرؤيا التي رآها عبّاد وتفسيره لها، ثم موقفه الباهر في القتال الذي انتهى باستشهاده..
يقول أبو سعيد:
" قال لي عباد بن بشر يا أبا سعيد رأيت الليلة، كأن السماء قد فرجت لي، ثم أطبقت عليّ..
واني لأراها ان شاء الله الشهادة..!!
فقلت له: خيرا والله رأيت..
واني لأنظر اليه يوم اليمامة، وانه ليصيح بالأنصار:
احطموا جفون السيوف، وتميزوا من الناس..
فسارع اليه أربعمائة رجل، كلهم من الأنصار، حتى انتهوا الى باب الحديقة، فقاتلوا أشد القتال..
واستشهد عباد بن بشر رحمه الله..
ورأيت في وجهه ضربا كثيرا، وما عرفته الا بعلامة كانت في جسده..
**

هكذا ارتفع عباد الى مستوى واجباته كؤمن من الأنصار، بايع رسول الله على الحياة لله، والموت في سبيله..
وعندما رأى المعركة الضارية تتجه في بدايتها لصالح الأعداء، تذكر كلمات رسول الله لقومه الأنصار:
" أنتم الشعار..
فلا أوتيّن من قبلكم"..
وملأ الصوت روعه وضميره..
حتى لكأن الرسول عليه الصلاة والسلام قائم الآن يردده كلماته هذه..
وأحس عباد أن مسؤولية المعركة كلها انما تقع على كاهل الأنصار وحدهم.. أو على كاهلهم قبل سواهم..
هنالك اعتلى ربوة وراح يصيح:
" يا معشر الأنصار..
احطموا جفون السيوف..
وتميزوا من الناس..
وحين لبّى نداءه أربعمائة منهم قادهم هو وأبو دجانة والبراء ابن مالك الى حديقة الموت حيث كان جيش مسيلمة يتحصّن.. وقاتل البطل القتال اللائق به كرجل.. وكمؤمن.. وكأنصاري..
**

وفي ذلك اليوم المجيد استشهد عباد..
لقد صدقت رؤياه التي رآها في منامه بالأمس..
ألم يكن قد رأى السماء تفتح، حتى اذا دخل من تلك الفرجة المفتوحة، عادت السماء فطويت عليه، وأغلقت؟؟
وفسرّها هو بأن روحه ستصعد في المعركة المنتظرة الى بارئها وخالقها..؟؟
لقد صدقت الرؤيا، وصدق تعبيره لها.
ولقد تفتحت أبواب السماء لتستقبل في حبور، روح عبّاد بن بشر..
الرجل الذي كان معه من الله نور..!!



عبد الله بن عمر - المثابر ، الأوّاب

تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال:
"لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا..
وما بايعت صاحب فتنة..
ولا أيقظت مؤمنا من مرقده"..
وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه..
من ذلك اليوم.. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام..
ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه، بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما، سنجد فيه حيثما نلقاه، المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة، ولا يند عن بيعة بايعها، ولا يخيس بعهد أعطاه..
وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبدالل بن عمر لكثيرة.
فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة..
كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة..
لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا.. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها..
لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله.. ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب..
فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة واخبات..
هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي.. فيصلي ابن عمر في ذات المكان..
وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما...
وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبدالله جالسا..
وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان..

بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها.
لكن عبدالل بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين للله.. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله..

ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت:
"ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر".
ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول:
"اللهم أبق عبدالله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره".

وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا.
وقد قال معاصروه..
"لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبدالله بن عمر"..!!

وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا..
جاءه يوما رجل يستفتيه، فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا:
" لا علم لي بما تسأل عنه"
وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه:
"سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم"..!
كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا.
وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة..
لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمهع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجدا..
ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء، وللجاه، وللمجد..؟!

دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر.. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره..
وسأله عثمان: أتعصيني؟؟
فأجاب ابن عمر:
" كلا.. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة..
قاض يقضي بجهل، فهو في النار..
وقاض يقضي بهوى، فهو في النار..
وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر..
واني لسائلك بالله أن تعفيني"..
وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا.
ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا..

وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية.
بيد أنه ليس كذلك، فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه.. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين، وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل..
ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء، ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها.. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه، ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة، والمزيد من العبادة..

كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام، كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال، وكثرت المناصب والامارات.
وشرع اغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة، مما جعل بعض أصحاب الرسول، ومنهم ابن عمر، يرفعون راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة، وقهر فتنتها واغرائها...
**

لقد كان ابن عمر،أخا الليل، يقومه مصليا.. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا..
ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبدالله، ومناط غبطته وحبوره..

ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه:
"رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه..
ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني..
فقصت حفصة - أختي- على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبدالله، لو كان يصلي من الليل فيكثر"..
ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله..
فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا.. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن.

يقول عبيد بن عمير: قرأت يوما على عبدالله بن عمر هذه الآية:
(فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا)..
فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه.
وجلس يوما بين اخوانه فقرا:
(ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)..
ثم مضى يردد الآية:
(..يوم يقوم الناس لرب العالمين).
ودموعه تسيل كالمطر. حتى وقع من كثرة وجده وبكائه..!!
**

ولقد كان جوده، وزهده، وورعه، تعمل معا في فن عظيم، لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم.. فهو يعطي الكثير لأنه جواد..
ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع..
ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا، لأنه زاهد..!!

وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا.. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن..
يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلافدرهم وقطيفة..
وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا- ..
فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف،وقطيفة..؟
قالوا: بلى..
قال: فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه..
قالوا: انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج.. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنهتا. فقال: انه وهبها لفقير..!!
فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف. حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس:
" يا معشر التجار..
ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته"..؟؟!!

ألا ان من كان محمد أستاذه، وعمر أباه، لعظيم، كفء لكل عظيم..!!
ان وجود عبد الله بن عمر، وزهزد وورعه، هذه الخصال الثلاثة، كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة.. وصدق البنوّة..
فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته. ويقول" لعل خفا يقع على خف".!
والذي يذهب برأيه في برأبيه وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء، فضلا عن الأقرباء. فضلا عن الأبناء..
أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول، ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا..
ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة كثيرة.. ولكنها تمر به مرورا.. وتعبر داره عبورا..
ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو، والا الى حسن الأحدوثة.
ومن ثم. فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء.. وقلما كان يأكل الطعام وحده.. فلا بد أن يكون معه أيتام، أو فقراء.. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه، حين يولمون للأغنياء، ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم:
"تدعون الشباع. وتدعون الجياع"..!!

وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حين يراهم.. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق..!
**

لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا،،
وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف..
ولم يكن ماله وحده، بل كان للفقراء فيه حق معلوم، بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب..
ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده.. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا، ولا يسعى اليها، بل ولا رجو منها الا كا يستر الجسد من لباس، ويقيم الأود من الطعام..

أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له:
لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل..
قال له ابن عمر: أرنيه اذن..
ثم لمسه وقال: أحرير هذا.؟
قال صاحبه: لا .. انه قطن.
وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهويقول:"لا.اني أخاف على نفسي.. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا.. والله لا يحب كل مختال فخور"..!!

وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا..
وسأله ابن عمر: ما هذا؟
قال: هذا دواء عظيم جئتك به من العراق.
قال ابن عمر: وماذا يطبب هذا الدواء..؟؟
قال: يهضم الطعام..
فالتسم ابن عمر وقال لصاحبه:" يهضم الطعام..؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما".!!

ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما، لم يكنيترك الشبع خصاصة، بلزهدا وورعا، ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه..
كان يخاف أن يقال له يوم القيامة:
(أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها)..

وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل..
ولقد تحدث عن نفسه قائلا:
"ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم"..
ويقول ميمون بن مهران:
" دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم"..!!
لم يكن ذلك عن فقر.ز قد كان ابن عمر ثريا..
ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا..
زامكا كان عن زهد في الدنيا، وازدراء للترف، والتزام لمنهجه في الصدق والورع..
ولقد عمّر ابن عمر طويلا، وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكث الدور.. بل قل أكثر القصور..
ومع هذا، بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا، لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده.
واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال:
"لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم"..
ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا، فيرفع يده الى السماء ويقول:
"اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا".
**

أجل.. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا، ولكان من الظافرين..
بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم، فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها..
وهل هناك كمنصب الخلافة اغراء..؟
لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه.. وهدد بالقتل ان لم يقبل. فازداد له رفضا، وعنه اعراضا..!!

يقول الحسن رضي الله عنه:
" لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر: انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس..
قال: ان والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم..
قالوا: لتخرجن، أ، لنقتلنكك على فراشك.. فأعاد عليهم قوله الأول..
فأطمعوه.. وخوّفوه.. فما استقبلوا منه شيئا"..!!

وفيما بعد.. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى..
ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر..
بيد أن كان له منطقه وحجته.فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر..

وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة، فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها، ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين، مختارين، أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف، فهذا ما يرفضه، ويرفض الخلافة معه..
وآنئذ، لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله، واجماع المسلمين على حبه وتوقيره، فان اتساع الأمصار، وتنائبها، والخلافات التي احتدمت بين المسلمين، وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب، وتتنادى للسيف، لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي يشترطه عبدالله بن عمر..

لقيه رجل يوما فقال له: ما أحد شر لأمة محمد منك..!
قال ابن عمر: ولم..؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم..
قال الرجل: انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان..
قال ابن عمر: ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول: لا، وآخر يقول: نعم.

وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية.. ثم لابنه يزيد من بعده.ز ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها..
حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة.. فقد ذهب اليه مروان قال له:
هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها..
قال له ابن عمر: كيف نصنع بأهل المشرق..؟
قال مروان: نضربهم حتى يبايعوا..
قال ابن عمر:"والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد"..!!
فانصرف عنه مروان وهو ينشد:
اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا
يعني بأبي ليلى، معاوية بن يزيد...
**

هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف، هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية، موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات:
"من قال حي على الصلاة أجبته..
ومن قال حي على الفلاح أجبته..
ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت: لا".!!
ولكنه في عزلته تلك وفي حياده، لا يماليء باطلا..
فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه يتحديات أوجعته وأربكته..
حتى توعده بالقتل، وهو القائل:" لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت"..!!

وذات يوم، وقف الحجاج خطيبا، فقال:" ان ابن الزبير حرّف كتاب الله"!
فصاح ابن عمر في وجهه:" كذبت، كذبت، كذبت".
وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء..
ولوذح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج، وأجابه الناس منبهرون:" ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب، فانك سفيه متسلط"..!!
ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه، حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب، رافضا أن ينحاز لأي فريق...
يقول أبو العالية البراء:
" كنت أمشي يوما خلف ابن عمر، وهو لا يشعر بي، فسمعته يقول لنفسه:
" واضعين سيوفهم على عواتقهم، يقتل بعضهم بعضا يقولون: يا عبد الله بن عمر، أعط يدك"..؟!

وكان ينفجر أسى وألما، حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم..!!
ولو استطاع أن يمنع القتال، ويصون الدم لفعل، ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها.
ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه، بل وكان معه يقينه فيما يبدو، حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه:
" ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية"..!!

على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له، وكان الحق معه، فانه لم يفعل ذلك هربا، والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله، والفتنة كلها، وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك، بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا..
ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال:" يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم.. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأمر_ يعني نصرة علي_؟؟
فأجابه قائلا:
" يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل: (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..)
ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله،اما اليوم. فيم نقاتل..؟؟
لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم.. من الركن الى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب..
أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله".؟!
هكذا كان منطقه، وكانت حجته، وكان اقتناعه..

فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه، لاهروبا، أ، سلبية، بل رفضا لاقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة، واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا..
ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا.. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات..

لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء الومن..!! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن.. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة..
لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء.. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا.
ووسط لجج الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم.
ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا:
( مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل)
بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر.. فيقولون:
( كان عمر في زمان له فيه نظراء، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير)..!!
وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد.. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير..
**

وفي العام الثاث والسبعين للهجرة.. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب. كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:22 pm

معاذ بن جبل - أعلمهم بالحلال والحرام

عندما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبابع الأنصار بيعة العقبة الثانية. كان يجلس بين السبعين الذين يتكوّن منهم وفدهم، شاب مشرق الوجه، رائع النظرة، برّاق الثنايا.. يبهر الأبصار بهوئه وسمته. فاذا تحدّث ازدادت الأبصار انبهارا..!!

ذلك كان معاذ بن جبل رضي الله عنه..
هو اذن رجل من الأنصار، بايع يوم العقبة الثانية، فصار من السابقين الأولين.
ورجل له مثل اسبقيته، ومثل ايمانه ويقينه، لا يتخلف عن رسول الله في مشهد ولا في غزاة. وهكذا صنع معاذ..
على أن آلق مزاياه، وأعظم خصائصه، كان فقهه..
بلغ من الفقه والعلم المدى الذي جعله أهلا لقول الرسول عنه:

" أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل"..
وكان شبيه عمر بن الخطاب في استنارة عقله، وشجاعة ذكائه. سألأه الرسول حين وجهه الى اليمن:
" بما تقضي يا معاذ؟"
فأجابه قائلا: " بكتاب الله"..
قال الرسول: " فان لم تجد في كتاب الله"..؟
"أقضي بسنة رسوله"..
قال الرسول: " فان لم تجد في سنة رسوله"..؟
قال معاذ:" أجتهد رأيي، ولا آلوا"..
فتهلل وجه الرسول وقال:
" الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".

فولاء معاذ لكتاب الله، ولسنة رسوله لا يحجب عقله عن متابعة رؤاه، ولا يحجب عن عقله تلك الحقائق الهائلة المتسرّة، التي تنتظر من يكتشفها ويواجهها.
ولعل هذه القدرة على الاجتهاد، والشجاعة في استعمال الذكاء والعقل، هما اللتان مكنتا معاذا من ثرائه الفقهي الذي فاق به أقرانه واخوانه، صار كما وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام " أعلم الناس بالحلال والحرام".
وان الروايات التاريخية لتصوره العقل المضيء الحازم الذي يحسن الفصل في الأمور..
فهذا عائذ الله بن عبدالله يحدثنا انه دخل المسجد يوما مع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خلافة عمر..قال:
" فجلست مجلسا فيه بضع وثلاثون، كلهم يذكرون حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحلقة شاب شديد الأدمة، حلو المنطق، وضيء، وهو أشبّ القوم سنا، فاذا اشتبه عليهم من الحديث شيء ردّوه اليه فأفتاهم، ولا يحدثهم الا حين يسألونه، ولما قضي مجلسهم دنوت منه وسالته: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا معاذ بن جبل".

وهذا أبو مسلم الخولاني يقول:
" دخلت مسجد حمص فاذا جماعة من الكهول يتوسطهم شاب برّاق الثنايا، صامت لا يتكلم.ز فاذا امترى القوم في شيء توجهوا اليه يسألونه.ز فقلت لجليس لي: من هذا..؟ قال: معاذ بن جبل.. فوقع في نفسي حبه".

وهذا شهر بن حوشب يقول:
" كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا تحدثوا وفيهم معاذ بن جبل، نظروا اليه هيبة له"..

ولقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يستثيره كثيرا..
وكان يقول في بض المواطن التي يستعين بها برأي معاذ وفقهه:
" لولا معاذ بن جبل لهلك عكر"..

ويبدو أن معاذ كان يمتلك عقلا أحسن تدريبه، ومنطقا آسرا مقنعا، ينساب في هدوء واحاطة..

فحيثما نلتقي به من خلال الروايات التاريخية عنه، نجده كما أسلفنا واسط العقد..
فهو دائما جالس والناس حوله.. وهو صموت، لا يتحدث الا على شوق الجالسين الى حديثه..
واذا اختلف الجالسون في أمر، أعادوه الى معاذ لبفصل فيه..
فاذا تكلم، كان كما وصفه أحد معاصريه:
" كأنما يخرج من فمه نور ولؤلؤ"..

ولقد بلغ كل هذه المنزلة في علمه، وفي اجلال المسلمين له، أيام الرسول وبعد مماته، وهو شاب.. فلقد مات معاذ في خلافة عمر ولم يجاوز من العمر ثلاثا وثلاثين سنة..!!
وكان معاذ سمح اليد، والنفس، والخلق..
فلا يسأل عن شيء الا أعطاه جزلان مغتبطا..ولقد ذهب جوده وسخاؤه بكل ماله.
ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاذ باليمن منذ وجهه النبي اليها يعلم المسلمين ويفقههم في الدين..

وفي خلافة أبي بكر رجع معاذ من اليمن، وكان عمر قد علم أن معاذا أثرى.. فاقترح على الخليفة أبي بكر أن يشاطره ثروته وماله..!
ولم ينتظر عمر، بل نهض مسرعا الى دار معاذ وألقى عليه مقالته..

كان معاذ ظاهر الكف، طاهر الذمة، ولئن كان قد أثري، فانه لم يكتسب اثما، ولم يقترف شبهة، ومن ثم فقد رفض عرض عمر، وناقشه رأيه..
وتركه عمر وانصرف..
وفي الغداة، كان معاذ يطوي الأرض حثيثا شطر دار عمر..
ولا يكاد يلقاه.. حتى يعنقه ودموعه تسبق كلماته وتقول:
" لقد رأيت الليلة في منامي أني أخوض حومة ماء، أخشى على نفسي الغرق.. حتى جئت وخلصتني يا عمر"..
وذهبا معا الى أبي بكر.. وطلب اليه معاذ أن يشاطره ماله، فقال أبو بكر:" لا آخذ منك شيئا"..
فنظر عمر الى معاذ وقال:" الآن حلّ وطاب"..
ما كان أبو بكر الورع ليترك لمعاذ درهما واحدا، لو علم أنه أخذه بغير حق..
وما كان عمر متجنيا على معاذ بتهمة أو ظن..
وانما هو عصر المثل كان يزخر بقوم يتسابقون الى ذرى الكمال الميسور، فمنهم الطائر المحلق، ومنهم المهرول، ومنهم المقتصد.. ولكنهم جميعا في قافلة الخير سائرون.
**

ويهاجر معاذ الى الشام، حيث يعيش بين أهلها والوافدين عليها معلما وفقيها، فاذا مات أميرها أبو عبيدة الذي كان الصديق الحميم لمعاذ، استخلفه أمير المؤمنين عمر على الشام، ولا يمضي عليه في الامارة سوى بضعة أشهر حتى يلقى ربه مخبتا منيبا..
وكان عمر رضي الله عنه يقول:
" لو استخلفت معاذ بن جبل، فسألني ربي: لماذا استخلفته؟ لقلت: سمعن نبيك يقول: ان العلماء اذا حضروا ربهم عز وجل ، كان معاذ بين أيديهم"..
والاستخلاف الذي يعنيه عمر هنا، هو الاستخلاف على المسلمين جميعا، لا على بلد أو ولاية..
فلقد سئل عمر قبل موته: لو عهدت الينا..؟ أي اختر خليفتك بنفسك وبايعناك عليه..
لإاجاب قائلا:
" لو كان معاذ بن جبل حيا، ووليته ثم قدمت على ربي عز وجل، فسألني: من ولّيت على أمة محمد، لقلت: ولّيت عليهم معاذ بن جبل، بعد أن سمعت النبي يقول: معاذ بن جبل امام العلماء يوم القيامة".
**

قال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:
" يا معاذ.. والله اني لأحبك فلا تنس أن تقول في عقب كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"..
أجل اللهم أعنّي.. فقد كان الرسول دائب الالحاح بهذا المعنى العظيم الذي يدرك الناس به أنه لا حول لهم ولا قوة، ولا سند ولا عون الا بالله، ومن الله العلي العظيم..
ولقد حذق معاذ لدرس وأجاد تطبيقه..
لقيه الرسول ذات صباح فسأله:
"كيف أصبحت يامعاذ"..؟؟
قال:
" أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله".
قال النبي:
:ان لكل حق حقيقة، فما حقيقة ايمانك"..؟؟
قال معاذ:
" ما أصبحت قط، الا ظننت أني لا أمسي.. ولا أمسيت مساء الا ظننت أني لا أصبح..
ولا خطوت خطوة الا ظننت أني لا أتبعها غيرها..
وكأني أنظر الى كل امة جاثية تدعى الى كتابها..
وكأني أرى أهل الجنة في الجنة ينعمون..
وأهل النار في النار يعذبون.."
فقال له الرسول:
" عرفت فالزم"..
أجل لقد أسلم معاذ كل نفسه وكل مصيره لله، فلم يعد يبصر شيئا سواه..

ولقد أجاد ابن مسعود وصفه حين قال:
"ان معاذا كان أمّة، قانتا لله حنيفا، ولقد كنا نشبّه معاذا بابراهيم عليه السلام"..
**

وكان معاذ دائب الدعوة الى العلم، والى ذكر الله..
وكان يدعو الناس الى التماس العلم الصحيح النافع ويقول:
" احذروا زيغ الحكيم.. وارفوا الحق بالحق، فان الحق نورا"..!!
وكان يرى العبادة قصدا، وعدلا..
قال له يوما أحد المسلمين: علمني.
قال معاذ: وهل أنت مطيعي اذا علمتك..؟
قال الرجل: اني على طاعتك لحريص..
فقال له معاذ:
" صم وافطر..
وصلّ ونم..
واكتسب ولا تأثم.
ولا تموتنّ الا مسلما..
واياك ودعوة المظلوم"..
وكان يرى العلم معرفة، وعملا فيقول:
" تعلموا ما شئتم أن تتعلموا، فلن ينفعكم الله بالعلم جتى تعملوا"..

وكان يرى الايمان بالله وذكره، استحضارا دائما لعظمته، ومراجعة دائمة لسلوك النفس.
يقول الأسود بن هلال:
" كنا نمشي مع معاذ، فقال لنا: اجلسوا بنا نؤمن ساعة"..
ولعل سبب صمته الكثير كان راجعا الى عملية التأمل والتفكر التي لا تهدأ ولا تكف داخل نفسه.. هذا الذي كان كما قال للرسول: لا يخطو خطوة، ويظن أنه سيتبعها بأخرى.. وذلك من فرط استغراقه في ذكره ربه، واستغراقه في محاسبته نفسه..
**

وحان أجل معاذ، ودعي للقاء الله...
وفي سكرات الموت تنطلق عن اللاشعور حقيقة كل حي، وتجري على لسانه ،ان استكاع الحديث، كلمات تلخص أمره وحياته..
وفي تلك اللحظات قال معاذ كلمات عظيمة تكشف عن مؤمن عظيم.
فقد كان يحدق في السماء ويقول مناجيا ربه الرحيم:
" الهم اني كنت أخافك، لكنني اليوم أرجوك، اللهم انك تعلم أني لم أكن أحبّ الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار.. ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ونيل المزيد من العلم والايمان والطاعة"..
وبسط يمينه كأنه يصافح الموت، وراح في غيبوبته يقول:
" مرحبا بالموت..
حبيب جاء على فاقه"..
وسافر معاذ الى الله...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:42 pm

حمزة بن عبد المطلب - أسد الله وسيّد الشهداء

كانت مكة تغطّ في نومها، بعد يوم مليء بالسعي، وبالكدّ، وبالعبادة وباللهو..

والقرشيون يتقلبون في مضاجعهم هاجعين.. غير واحد هناك يتجافى عن المضجع جنباه، يأوي الى فراشه مبركا، ويستريح ساعات قليلة، ثم ينهض في شوق عظيم، لأنه مع الله على موعد، فيعمد الى مصلاه في حجرته، ويظل يناجي ربه ويدعوه.. وكلما استيقظت زوجته على أزير صدره الضارع وابتهالاته الحارّو الملحة، وأخذتها الشفقة عليه، ودعته أن يرفق بنفسه ويأخذ حظه من النوم، يجيبها ودموع عينيه تسابق كلماته:
" لقد انقضى عهد النوم يا خديجة"..!!
لم يكن أمره قد أرّق قريش بعد، وان كان قد بدأ يشغلا انتباهها، فلقد كان حديث عهد بدعوته، وكان يقول كلمته سرا وهمسا.
كان الذين آمنوا به يومئذ قليلين جدا..

وكان هناك من غير المؤمنين به من يحمل له كل الحب والاجلال، ويطوي جوانحه على شوق عظيم الى الايمان به والسير في قافلته المباركة، لا يمنعه سوى مواضعات العرف والبيئة، وضغوط التقاليد والوراثة، والتردد بين نداء الغروب، ونداء الشروق.
من هؤلاء كان حمزة بن عبد المطلب.. عم النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاعة.
**

كان حمزة يعرف عظمة ابن أخيه وكماله.. وكان على بيّنة من حقيقة أمره، وجوهر خصاله..
فهو لا يعرف معرفة العم بابن أخيه فحسب، بل معرفة الأخ بالأخ، والصديق بالصديق.. ذلك أن رسول الله وحمزة من جيل واحد، وسن متقاربة. نشأ معا وتآخيا معا، وسارا معا على الدرب من أوله خطوة خطوة..

ولئن كان شباب كل منهما قد مضى في طريق، فأخذ حمزة يزاحم أنداده في نيل طيبات الحياة، وافساح مكان لنفسه بين زعماء مكة وسادات قريش.. في حين عكف محمد على اضواء روحه التي انطلقت تنير له الطريق الى الله وعلى حديث قلبه الذي نأى به من ضوضاء الحياة الى التأمل العميق، والى التهيؤ لمصافحة الحق وتلقيه..
نقول لئن كان شباب كل منهما قد اتخذ وجهة مغايرة، فان حمزة لم تغب عن وعيه لحظة من نهار فضائل تربه وابن أخيه.. تلك الفضائل والمكارم التي كانت تحلّ لصاحبها مكانا عليّا في أفئدة الناس كافة، وترسم صورة واضحة لمستقبله العظيم.
في صبيحة ذلك اليوم، خرج حمزة كعادته.
وعند الكعبة وجد نفرا من أشراف قريش وساداتها فجلس معهم، يستمع لما يقولون..
وكانوا يتحدثون عن محمد..
ولأول مرّة رآهم حمزة يستحوذ عليهم القلق من دعوة ابن أخيه.. وتظهر في أحاديثهم عنه نبرة الحقد، والغيظ والمرارة.
لقد كانوا من قبل لا يبالون، أو هم يتظاهرون بعدم الاكتراث واللامبالاة.
أما اليوم، فوجوههم تموج موجا بالقلق، والهمّ، والرغبة في الافتراس.
وضحك حمزة من أحاديثهم طويلا.. ورماهم بالمبالغة، وسوء التقدير..

وعقب أبو جهل مؤكدا لجلسائه أن حمزة أكثر الانس علما بخطر ما يدعو اليه محمد ولكنه يريد أم يهوّن الأمر حتى تنام قريش، ثم تصبح يوما وقد ساء صاحبها، وظهر أمر ابن أخيه عليها...
ومضوا في حديثهم يزمجرون، ويتوعدون.. وحمزة يبتسم تارّة، ويمتعض أخرى، وحين انفض الجميع وذهب كل الى سبيله، كان حمزة مثقل الرأس بأفكار جديدة، وخواطر جديدة. راح يستقبل بها أمر ابن أخيه، ويناقشه مع نفسه من جديد...!!!
**

ومضت الأيام، ينادي بعضها بعضا ومع كل يوم تزداد همهمة قريش حول دعوة الرسول..
ثم تتحوّل همهمة قريش الى تحرّش. وحمزة يرقب الموقف من بعيد..
ان ثبات ابن أخيه ليبهره.. وان تفانيه في سبيل ايمانه ودعوته لهو شيء جديد على قريش كلها، برغم ما عرفت من تفان وصمود..!!
ولو استطاع الشك يومئذ أن يخدع أحدا عن نفسه في صدق الرسول وعظمة سجاياه، فما كان هذا الشك بقادر على أن يجد الى وعي حمزة منفا أو سبيلا..
فحمزة خير من عرف محمدا، من طفولته الباكرة، الى شباب الطاهر، الى رجولته الأمينة السامقة..
انه يعرفه تماما كما يعرف نغسه، بل أكثر مما يعرف نفسه، ومنذ جاءا الى الحياة معا، وترعرعا معا، وبلغا أشدّهما معا، وحياة محمد كلها نقية كأشعة الشمس..!! لا يذكر حمزة شبهة واحدة ألمّت بهذه الحياة، لا يذكر أنه رآه يوما غاضبا، أو قانطا، أو طامعا،أو لاهيا، أو مهزوزا...
وحمزة لم يكن يتمتع بقوة الجسم فحسب، بل وبرجاحة العقل، وقوة اارادة أيضا..
ومن ثم لم يكن من الطبيعي أن يتخلف عن متابهة انسان يعرف فيه كل الصدق وكل الأمانة.. وهكذا طوى صدره الى حين على أمر سيتكشّف في يوم قريب..
**

وجاء اليوم الموعود..
وخرج حمزة من داره،متوشحا قوسه، ميمّما وجهه شطر الفلاة ليمارس هوايته المحببة، ورياضته الأثيرة، الصيد.. وكان صاحب مهارة فائقة فيه..
وقضى هناك بعض يومه، ولما عاد من قنصه، ذهب كعادته الى الكعبة ليطوف بها قبل أن يقفل راجعا الى داره.
وقريبا من الكعبة، لقته خادم لعبدالله بن جدعان..
ولم تكد تبصره حتى قالت له:
" يا أبا عمارة.. لو رأيت ما اقي ابن أخيك محمد آنفا، من أبي الحكم بن هشام.. وجده جالسا هناك ، فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره"..
ومضت تشرح له ما صنع أبو جهل برسول الله..
واستمع حمزة جيدا لقولها، ثم أطرق لحظة، ثم مد يمينه الى قوسه فثبتها فوق كتفه.. ثم انطلق في خطى سريعة حازمة صوب الطعبة راجيا أن يلتقي عندها بأبي جهل.. فان هو لم يجده هناك، فسيتابع البحث عنه في كل مكان حتى يلاقيه..
ولكنه لا يكاد يبلغ الكعبة، حتى يبصر أبا جهل في فنائها يتوسط نفرا من سادة قريش..
وفي هدوء رهيب، تقدّم حمزة من أبي جهل، ثم استلّ قوسه وهوى به على رأس أبي جهل فشجّه وأدماه، وقبل أن يفيق الجالسون من الدهشة، صاح حمزة في أبي جهل:
" أتشتم محمدا، وأنا على دينه أقول ما يقول..؟! الا فردّ ذلك عليّ ان استطعت"..

وفي لحظة نسي الجالسون جميعا الاهانة التي نزلت بزعيمهم أبي جهل والدم لذي ينزف من رأسه، وشغلتهم تلك الكلمة التي حاقت بهم طالصاعقة.. الكلمة التي أعلن بها حمزة أنه على دين محمد يرى ما يراه، ويقول ما يقوله..
أحمزة يسلم..؟
أعزّ فتيان قريش وأقواهم شكيمة..؟؟
انها الطامّة التي لن تملك قريش لها دفعا.. فاسلام حمزة سيغري كثيرين من الصفوة بالاسلام، وسيجد محمد حوله من القوة والبأس ما يعزز دعوته ويشدّ ازره، وتصحو قريش ذات يوم على هدير المعاول تحطم أصنامها وآلهتها..!!
أجل أسلم حمزة، وأعلن على الملأ الأمر الذي كان يطوي عليه صدره، وترك الجمع الذاهل يجترّ خيبة أمله، وأبا جهل يلعق دماءه النازفة من رأسه المشجوج.. ومدّ حمزة يمينه مرّة أخرى الى قوسه فثبتها فوق كتفه، واستقبل الطريق الى داره في خطواته الثابتة، وبأسه الشديد..!
**

كان حمزة يحمل عقلا نافذا، وضميرا مستقيما..
وحين عاد الى بيته ونضا عنه متاعب يومه. جلس يفكر، ويدير خواطره على هذا الذي حدث له من قريب..
كيف أعلن اسلامه ومتى..؟
لقد أعلنه في لحظات الحميّة، والغضب، والانفعال..
لقد ساءه أن يساء الى ابن اخيه، ويظلم دون أن يجد له ناصرا، فيغضب له، وأخذته الحميّة لشرف بني هاشم، فشجّ رأس أبي جهل وصرخ في وجهه باسلامه...
ولكن هل هذا هو الطريق الأمثل لك يغدار الانسان دين آبائه وقومه... دين الدهور والعصور.. ثم يستقبل دينا جديدا لم يختبر بعد تعاليمه، ولا يعرف عن حقيقته الا قليلا..
صحيح أنه لا يشك لحظة في صدق محمد ونزاهة قصده..
ولكن أيمكن أن يستقبل امرؤ دينا جديدا، بكل ما يفرضه من مسؤوليات وتبعات، في لحظة غضب، مثلما صنع حمزة الآن..؟؟؟

وشرع يفكّر.. وقضى أياما، لا يهدأ له خاطر.. وليالي لا يرقأ له فيها جفن..
وحين ننشد الحقيقة بواسطة العقل، يفرض الشك نفسه كوسيلة الى المعرفة.
وهكذا، لم يكد حمزة يستعمل في بحث قضية الاسلام، ويوازن بين الدين القديم، والدين الجديد، حتى ثارت في نفسه شكوك أرجاها الحنين الفطري الموروث الى دين آبائه.. والتهيّب الفطري الموروث من كل جيد..

واستيقظت كل ذكرياته عن الكعبة، وآلهاها وأصنامها... وعن الأمجاد الدينية التى أفاءتها هذه الآلهة المنحوتة على قريش كلها، وعلى مكة بأسرها.
لقد كان يطوي صدره على احترام هذه الدعوة الجديدة التي يحمل ابن أخيه لواءها..
ولكن اذا كان مقدورا له أن يكون أح أتباع هذه الدعوة، المؤمنين بها، والذائدين عنها.. فما الوقت المناسب للدخول في هذا الدين..؟
لحظة غضب وحميّة..؟ أم أوقات تفكير ورويّة..؟
وهكذا فرضت عليه استقامة ضميره، ونزاهة تفكيره أن يخضع المسألأة كلها من جديد لتفكر صارم ودقيق..

وبدأ الانسلاخ من هذا التاريخ م\كله.. وهذا الدين القديم العريق، هوّة تتعاظم مجتازها..
وعجب حمزة كيف يتسنى لانسان أن يغادر دين آبائه بهذه السهولة وهذه السرعة.. وندم على ما فعل.. ولكنه واصل رحلة العقل.. ولما رأى أن العقل وحده لا يكفي لجأ الى الغيب بكل اخلاصه وصدقه..
وعند الكعبة، كان يستقبل السماء ضارعا، مبتهلا، مستنجدا بكل ما في الكون من قدرة ونور، كي يهتدي الى الحق والى الطريق المستقيم..
ولنضع اليه وهو يروي بقية النبأ فيقول:
".. ثم أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي.. وبت من الشك في أمر عظيم، لا أكتحل بنوم..
ثم أتيت الكعبة، وتضرّعت تاة الله أن يشرح صدري للحق، ويذهب عني الريب.. فاستجاب الله لي وملأ قلبي يقينا..
وغدوت الى رسول الله صلى الل عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري، فدع الله أن يثبت قلبي على دينه.."
وهكذا أسلم حمزة اسلام اليقيم..
**

أعز الله الاسلام بحمزة..ز ووقف شامخا قويا يذود عن رسول الله، وعن المستضعفين من أصحابه..
ورآه أبو جهل يقف في صفوف المسلمين، فأدرك أنها الحرب لا محالة، وراح يحرّض قريشا على انزال الأذى بالرسول وصحبه، ومضى يهيء لحرب أهليّة يشفي عن طرقها مغايظة وأحقاده..
ولم يستطع حمزة أن يمنع كل الأذى ولكن اسلامه مع ذلك كان وقاية ودرعا.. كما كان اغراء ناجحا لكثير من القبائل التي قادها اسلام حمزة أولا. ثم اسلام عمر بن الخطاب بعد ذلك الى الاسلام فدخلت فيه أفواجا..!!
ومنذ أسلم حمزة نذر كل عافيته، وبأسه، وحياته، لله ولدينه حتى خلع النبي عليه هذا اللقب العظيم:
"أسد الله، وأسد رسوله"..
وأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء عدو، كان أميرها حمزة..
وأول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين كانت لحمزة..
ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر، كان أسد الله ورسوله هناك يصنع الأعاجيب..!!
**

وعادت فلول قريش من بدر الى مكة تتعثر في هزيمتها وخيبتها... ورجع أبو سفيان مخلوع القلب، مطأطئ ال{اس. وقد خلّف على أرض المعركة جثث سادة قريش، من أمثال أبي جهل.. وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأميّة بن خلف. وعقبة بن أبي معيط.. والأسود بن عبدالله المخزومي، والوليد بن عتبة.. والنفر بن الحارث.. والعاص بن سعيد.. وطعمة ابن عديّ.. وعشرات مثلهم من رجال قريش وصناديدها.
وما كانت قريش لتتجرّع هذه الهزيمة المنكرة في سلام... فراحت تعدّ عدّتها وتحشد بأسها، لتثأر لنفسها ولشرفها ولقتلاها.. وصمّمت قريش على الحرب..
**

وجاءت غزوة أحد حيث خرجت قريش على بكرة أبيها، ومعها حلفاؤها من قبائل العرب، وبقيادة أبي سفيان مرة أخرى.
وكان زعماء قريش يهدفون بمعركتهم الجديدة هذه الى رجلين اثنين: الرسول صلى اله عليه وسلم، وحمزة رضي الله عنه وأرضاه..
أجل والذي كان يسمع أحاديثهم ومؤامراتهم قبل الخروج للحرب، يرى كيف كان حمزة بعد الرسول بيت القصيد وهدف المعركة..

ولقد اختاروا قبل الخروج، الرجل الذي وكلوا اليه أمر حمزة، وهو عبد حبشي، كان ذا مهارة خارقة في قذف الحربة، جعلوا كل دوره في المعركة أن يتصيّد حمزة ويصوّب اليه ضربة قاتلة من رمحه، وحذروه من أن ينشغل عن هذه الغاية بشيء آخر، مهما يكن مصير المعركة واتجاه القتال.
ووعدوه بثمن غال وعظيم هو حريّته.. فقد كان الرجل واسمه وحشي عبدا لجبير بن مطعم.. وكان عم جبير قد لقي مصرعه يوم بدر فقال له جبير"
" اخرج مع الناس وان أنت قتلت حمزة فأنت عتيق"..!!
ثم أحالوه الى هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان لتزيده تحريضا ودفعا الى الهدف الذي يريدون..
وكانت هند قد فقدت في معركة بدر أباها، وعمها، وأخاها، وابنها.. وقيل لها ان حمزة هو الذي قتل بعض هؤلاء، وأجهز على البعض الآخر..
من أجل هذا كانت أكثر القرشيين والقرشيّات تحريضا على الخروج للحرب، لا لشيء الا لتظفر برأس حمزة مهما يكن الثمن الذي تتطلبه المغامرة..!!
ولقد لبثت أياما قبل الخروج للحرب، ولا عمل لها الا افراغ كل حقدها في صدر وحشي ورسم الدور الذي عليه أن يقوم به..

ولقد وعدته ان هو نجح في قال حمزة بأثمن ما تملك المرأة من متاع وزينة، فلقد أمسكت بأناملها الحاقدة قرطها اللؤلؤي الثمين وقلائدها الذهبية التي تزدحم حول عنقها، ثم قالت وعيناها تحدّقان في وحشي:
" كل هذا لك، ان قتلت حمزة"..!!
وسال لعاب وحشي، وطارت خواطره توّاقة مشتاقة الى المعركة التي سيربح فيها حريّته، فلا يصير بعد عبدا أو رقيقا، والتي سيخرج منها بكل هذا الحلي الذي يزيّن عنق زعيمة نساء قريش، وزوجة زعيمها، وابنة سيّدها..!!
كانت المؤمرة اذن.. وكانت الحرب كلها تريد حمزة رضي الله عنه بشكل واضح وحاسم..
**

وجاءت غزوة أحد...
والتقى الجيشان. وتوسط حمزة أرض الموت والقتال، مرتديا لباس الحرب، وعلى صدره ريشة النعام التي تعوّد أن يزيّن بها صدره في القتال..
وراح يصول ويجول، لا يريد رأسا الا قطعه بسيفه، ومضى يضرب في المشركين، وكأن المنايا طوع أمره، يقف بها من يشاء فتصيبه في صميمه.!!

وصال المسلمون جميعا حتى قاربوا النصر الحاسم.. وحتى أخذت فلول قريش تنسحب مذعورة هاربة.. ولولا أن ترك الرماة مكانهم فوق الجبل، ونزلوا الى أرض المعركة ليجمعوا غنائم العدو المهزوم.. لولا تركهم مكانهم وفتحوا الثغرة الواسعة لفرسان قريش لكانت غزوة أحد مقبرة لقريش كلها، رجالها، ونسائها بل وخيلها وابلها..!!

لقد دهم فرسانها المسلمين من ورائهم على حين غفلة، واعملوا فيهم سيوفهم الظامئة المجنونة.. وراح المسلمون يجمعون أنفسهم من جديدو ويحملون سلاحهم الذي كان بعضهم قد وضعه حين رأى جيش محمد ينسحب ويولي الأدبار.. ولكن المفاجأة كانت قاسية عنيفة.
ورأى حمزة ما حدث فضاعف قوته ونشاطه وبلاءه..
وأخذ يضرب عن يمينه وشماله.. وبين يديه ومن خلفه.. ووحشيّ هناك يراقبه، ويتحيّن الفرصة الغادرة ليوجه نحنوه ضربته..
ولندع وحشا يصف لنا المشهد بكلماته:
[.. وكنت جلا حبشيا، أقذف بالحربة قذف لحبشة، فقلما أخطئ بها شيئا.. فلما التقى الانس خرجت أنظر حمزة وأتبصّره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق.. يهدّ الناس بسيفه هدّا، ما يقف امامه شيء، فوالله اني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأقتحمه أو ليدنو مني، اذ تقدّمني اليه سباع بن عبد العزى. فلما رآه حمزة صاح به: هلمّ اليّ يا بن مقطّعة البظرو. ثم ضربه ضربة فما أخطأ رأسه..
عندئذ هززت حربتي حتى اذا رضيت منها دفعتها فوقعت في ثنّته حتى خرجت من بين رجليه.. ونهض نحوي فغلب على امره ثم مات..
وأتيته فأخذت حربتي، ثم رجعت الى المعسكر فقعدت فيه، اذ لم يكن لي فيه حاجة، فقد قتلته لأعتق..]

ولا بأس في أن ندع وحشيا يكمل حديثه:
[فلما قدمت مكة أعتقت، ثم أقمت بها حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فهربت الى الطائف..
فلما خرج وفد الطائف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسلم تعيّت عليّ المذاهب. وقلت : الحق بالشام أو اليمن أو سواها..
فوالله اني لفي ذلك من همي اذ قال لي رجل: ويحك..! ان رسول اله، والله لا يقتل أحد من الناس يدخل دينه..
فخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فلم يرني الا قائما أمامه أشهد شهادة الحق. فلما رآني قال: أوحشيّ أنت..؟ قلت: نعم يا رسول الله.. قال: فحدّثني كيف قتلت حمزة، فحدّثته.. فلما فرغت من حديثي قال: ويحك.. غيّب عني وجهك.. فكنت أتنكّب طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان، لئلا يراني حتى قبضه الله اليه..
فلما خرج المسلمون الى مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة خرجت معهم، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة.. فلما التقى الانس رأيت مسيلمة الكذاب قائما، في يده السيف، فتهيأت له، وهززت حربتي، حتى اذا رضيته منها دفعتها عليه فوقعت فيه..
فان كنت قد قتلت بحربتي هذه خير الناس وهو حمزة.. فاني لأرجو أن يغفر الله لي اذ قتلت بها شرّ الناس مسيلمة]..
**

هكذا سقط أسد الله ورسوله، شهيدا مجيدا..!!
وكما كانت حياته مدوّية، كانت موتته مدوّية كذلك..
فلم يكتف أعداؤه بمقتله.. وكيف يكتفون أو يقتنعون، وهم الذين جنّدوا كل أموال قريش وكل رجالها في هذه المعركة التي لم يريدوا بها سوى الرسول وعمّه حمزة..
لقد أمرت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان.. أمرت وحشيا أن يأتيها بكبد حمزة.. واستجاب الحبشي لهذه الرغبة المسعورة.. وعندما عاد بها الى هند كان يناولها الكبد بيمناه، ويتلقى منها قرطها وقلائدها بيسراه، مكافأة له على انجاز مهمته..

ومضغت هند بنت عتبة الذي صرعه المسلمون ببدر، وزوجة أبي سفيان قائد جيوش الشرك الوثنية،مضغت كبد حمزة، راجية أن تشفي تلك الحماقة حقدها وغلها. ولكن الكبد استعصت على أنيابها، وأعجزتها أن تسيغها، فأخرجتها من فمها، ثم علت صخرة مرتفعة، وراحت تصرخ قائلة:
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر
ولا أخي وعمّه وبكري
شفيت نفسي وقضيت نذري
أزاح وحشي غليل صدري

وانتهت المعركة، وامتطى المشركون ابلهم، وساقوا خيلهم قافلين الى مكة..
ونزل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه معه الى أرض المعركة لينظر شهداءها..
وهناك في بطن الوادي. وا هو يتفحص وجوه أصحابه الذين باعوا لله أنفسهم، وقدّموها قرابين مبرورة لربهم الكبير. وقف فجأة.. ونظر. فوجم.. وضغط على أسنانه.. وأسبل جفنيه..

فما كان يتصوّر قط أن يهبط الخلق العربي على هذه الوحشية البشعة فيمثل بجثمان ميت على الصورة التي رأى فيها جثمان عمه الشهيد حمزة بن عبد المطلب أسد الله وسيّد الشهداء..
وفتح الرسول عينيه التي تألق بريقهما كومض القدر وقال وعيناه على جثمان عمّه:
" لن اصاب بمصلك أبدا..
وما وقفت موقفا قط أغيظ اليّ من موقفي هذا..".

ثم التفت الى أصحابه وقال:
" لولا أن تحزن صفيّة _أخت حمزة_ ويكون سنّه من بعدي، لتركته حتى يكون في بطون السباع وحواصل الطير.. ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن، لأمثلن بثلاثين رجلا منهم.."
فصاح أصحاب الرسول:
" والله لئن ظفرنا بهم يوما من الدهر، لنمثلن بهم، مثلة لم يمثلها أحد من العرب..!!"

ولكن الله الذي أكرم حمزة بالشهادة، يكرّمه مرة أخرى بأن يجعل من مصرعه فرصة لدرس عظيم يحمي العدالة الى الأبد، ويجعل الرحمة حتى في العقوبة والقصاص واجبا وفرضا..
وهكذا لم يكد الرسول صلى الله عليه وسلم يفرغ من القاء وعيده السالف حتى جاءه الوحي وهو في مكانه لم يبرحه بهذه الآية الكريمة:
(ادع الى ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين.
وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين.
واصبر وما صبرك الا بالله، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يمكرون.
ان الله مع الذين اتقوا، والذين هم محسنون..)
وكان نزول هذه الآيات، في هذا الموظن، خير تكريم لحمزة الذي وقع أجره على الله..
**

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه أعظم الحب، فهو كما ذكرنا من قبل لم يكن عمّه الحبيب فحسب..
بل كان اخاه من الرضاعة..
وتربه في الطفولة..
وصديق العمر كله..
وفي لحظات الوداع هذه، لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم تحية يودّعه بها خيرا من أن يصلي عليه بعدد الشهداء المعركة جميعا..
وهكذا حمل جثمان حمزة الى مكان الصلاة على أرض المعركة التي شهدت بلاءه، واحتضنت دماءه، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم جيء يشهيد آخر، فصلى عليه الرسول.. ثم رفع وترك حمزة مكانه، وجيء بشهيد ثاث فوضع الى جوار حمزة وصلى عليهما الرسول..
وهكذا جيء بالشهداء.. شهيد بعد شهيد.. والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي على كل واحد منهم وعلى حمزة معه حتى صلى على عمّه يومئذ سبعين صلاة..
**

وينصرف الرسول من المعركة الي بيته، فيسمع في طريقه نساء بني عبد الأشهل يبكين شهداءهن، فيقول عليه الصلاة والسلام من فرط حنانه وحبه:
" لكنّ حمزة لا بواكي له"..!!

ويسمعها سعد بن معاذ فيظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام يطيب نفسا اذا بكت النساء عمه، فيسرع الى نساء بني عبد الأشهل ويأمرهن أن يبكين حمزة فيفعلن… ولا يكاد الرسول يسمع بكاءهن حتى يخرج اليهن، ويقول
" ما الى هذا قصدت، ارجعن يرحمكن الله، فلا بكاء بعد اليوم"
ولقد ذهب أصحاب رسول الله يتبارون في رثاء حمزة وتمجيد مناقبه العظيمة.

فقال حسان بن ثابت:
دع عنك دارا قد عفا رسمها
وابك على حمزة ذي النائل
اللابس الخيل اذا أحجمت
كالليث في غابته الباسل
أبيض في الذروة من بني هاشم
لم يمر دون الحق بالباطل
مال شهيدا بين أسيافكم
شلت يدا وحشي من قاتل

وقال عبد الله بن رواحة:
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الاله غداة قالوا:
أحمزة ذاكم الرجل القتيل
أصيب المسلمون به جميعا
هناك وقد أصيب به الرسول
أبا يعلى، لك الأركان هدّت
وأنت الماجد البرّ الوصول

وقالت صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة:
دعاه اله الحق ذو العرش دعوة
الى جنة يحيا بها وسرور
فذاك ما كنا نرجي ونرتجي
لحمزة يوم الحشر خير مصير
فوالله ما أنساك ما هبّت الصبا
بكاءا وحزنا محضري وميسري
على أسد الله الذي كان مدرها
يذود عن الاسلام كل كفور
أقول وقد أعلى النعي عشيرتي
جزى الله خيرا من أخ ونصير

على أن خير رثاء عطّر ذكراه كانت كلمات رسول الله له حين وقف على جثمانه ساعة رآه بين شهداء المعركة وقال:
" رحمة الله عليك، فانك كنت وصولا للرحم فعولا للخيرات"..
**

لقد كان مصاب النبي صلى الله عليه وسلم في عمه العظيم حمزة فادحا. وكان العزاء فيه مهمة صعبة.. بيد أن الأقدر طكانت تدّخر لرسول الله أجمل عزاء.
ففي طريقه من أحد الى داره مرّ عليه الصلاة والسلام بسيّدة من بني دينار استشهد في المعركة أبوها وزوجها، وأخوها..
وحين أبصرت المسلمين عائدين من الغزو، سارعت نحوهم تسألهم عن أنباء المعركة..
فنعوا اليها الزوج..والأب ..والأخ..
واذا بها تسألهم في لهفة:
" وماذا فعل رسول الله"..؟؟
قالوا:
" خيرا.. هو بحمد الله كما تحبين"..!!
قالت:
" أرونيه، حتىأنظر اليه"..!!
ولبثوا بجوارها حتى اقترب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رأته أقبلت نحوه تقول:
" كل مصيبة بعدك، أمرها يهون"..!!
**

أجل..
لقد كان هذا أجمل عزاء وأبقاه..
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم قد ابتسم لهذا المشهد الفذّ الفريد، فليس في دنيا البذل، والولاء، والفداء لهذا نظير..
سيدة ضعيفة، مسكينة، تفقد في ساعة واحدة أباها وزوجها وأخاها.. ثم يكون ردّها على الناعي لحظة سمعها الخبر الذي يهدّ الجبال:
" وماذا فعل رسول الله"..؟؟!!

لقد كان مشهد أجاد القدر رسمه وتوقيته ليجعل منه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عزاء أي عزاء.. في أسد الله، وسيّد الشهداء..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالإثنين مايو 09, 2011 6:51 pm

لي عودة لأستكمال ما الموضوع

اتمنى عدم الردود حتى انتهي من الموضوع تماماً

دمتم بخير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لحظة حب
المراقبة العامة
المراقبة العامة
لحظة حب


الجنس : انثى
العمر : 45
المساهمات : 9435
نقاط : 13660
الميلاد : 01/07/1978
التسجيل : 01/12/2009
السمعة : 10
موظفة
مزاجي : هادئة وحنونة وطيوبة ورومانسية
sms : يا الله هب لي قلبا
يشمل الكون محبة
يهدي الى الخير قدوة
يحمل اليقين موثقا بوعدك
يا نور السموات والارض


بطاقة الشخصية
الساعة الآن::



رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty

مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 12:28 am

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  19ul7
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 6:16 pm

عمير بن وهب - شيطان الجاهلية ، و حواري الاسلام

في يوم بدر، كان واحدا من قادة قريش الذين حملوا سيوفهم ليجهزوا على الاسلام.

وكان حديد البصر، محكم التقدير، ومن ثم ندبه قومه ليستطلع لهم عدد المسلمين الذين خرجوا مع الرسول للقائهم، ولينظر ان كان لهم من وزرائهم كمين أو مدد..
وانطلق عمير بن وهب الجمحيّ وصال بفرسه حول معسكر المسلمين، ثم رجع يقول لقومه:" انهم ثلاثمائة رجل، يزيدون قليلا أ، ينقصون" وكان حدسه صحيحا.
وسألوه: هل وراءهم امتداد لهم؟؟ فأجابهم قائلا:

" لم أجد وراءهم شيءا.. ولكن يا معشر قريش، رأيت المطايا تحمل الموت الناقع.. قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم..
" والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجل منكم، فاذا أصابوا منكم مثل عددهم، فما خير العيش بعد ذلك..؟؟
" فانظروا رأيكم"..
وتأثر بقوله ورأيه نفر من زعماء قريش، وكادوا يجمعون رجالهم ويعودون الى مكة بغير قتال، لولا أبي جهل الذي أفسد عليهم رأيهم، وأضرم في النفوس نار الحقد، ونار الحربو التي كان هو أول قتلاها..
**

كان أهل مكة يلقبونه بـ شيطان قريش..
ولقد أبلى شيطان قريش يوم بدر بلاء لم يغن قومه شيئا، فعادت قوات قريش الى مكة مهزومة مدحورة، وخلّف عمير بن وهب في المدينة بضعة منه.. اذ وقع ابنه في أيدي المسلمين أسيرا..
وذات يوم ضمّه مجلس ابن عمّه صفوان بن أميّة.. وكان صفوان يمضغ أحقاده في مرارة قاتلة، فان أباه أميّة بن خلف قد لقي مصرعه في بدر وسكنت عظامه القليب.
جلس صفوان وعمير يجترّان أحقادهما..
ولندع عروة بن الزبير ينقل الينا حديثهما الطويل:
" قال صفوان، وهو يذكر قتلى بدر: والله ما في العيش بعدهم من خير..!
وقال له عمير: صدقت، ووالله لولا دين محمد عليّ لا أملك قضاءه، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي لركبت الى محمد حتى أقتله، فان لي عنده علة أعتلّ بها عليه: أٌقول قدمت من أجل ابني هذا الأسير.
فاغتنمها صفوان وقال: عليّ دينك.. أنا أقضيه عنك.. وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا..
فقال له عمير:اذن فاكتم شأني وشأنك..."

ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسمّ، ثم انطلق حتى قدم المدينة.
وبينما عمر بن الخطاب في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، ويذكرون ما أكرمهم الله به، اذ نظر عمر فرأى عمير بن وهب، قد أناخ راحلته على باب المسجد، متوشحا سيفه، فقال:
هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب، والله ما جاء الا لشرّ..
فهو الذي حرّش بيننا وحزرنا للقوم يوم بدر..
ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فال:
يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه..
قال صلى الله عليه وسلم:
أدخله عليّ.." فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلبّبه بها، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار، ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجلسوا عنده واحذروا عليه من هذا الخبيث، فانه غير مأمون."
ودخل به عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخذ بحمّالة سيفه في عنقه فلما رآه الرسول قال: دعه يا عمر..
اذن يا عمير..
فدنا عمير وقال: انعموا صباحا، وهي تحيّة الجاهلية،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير، بالسلام.. تحية أهل الجنة.
فقال عمير: أما والله يا محمد ان كنت بها لحديث عهد.
قال لرسول: فما جاء بك يا عمير..؟؟
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم.
قال النبي: فما بال السيف في عنقك..؟؟
قال عمير: قبّحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا..؟!
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أصدقني يا عمير، ما الذي جئت له..؟
قال: ما جئت الا لذلك.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: بل قعدت أنت وصفوان بن أميّة في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش، ثم قلت، لولا دين عليّ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدا، فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني له، والله حائل بينك وبين ذلك..!!!
وعندئذ صاح عمير: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أنك رسول الله.. هذا أمر لم يحضره الا أنا وصفوان، فوالله ما أنبأك به الا الله، فالحمد لله الذي هداني للاسلام..
فقال الرسول لأصحابه: فقّهوا أخاكم في الدين وأقرئه القرآن، وأطلقوا أسيره....!!
**

هكذا أسلم عمير بن وهب..
هكذا أسلم شيطان قريش، وغشيه من نور الرسول والاسلام ما غشيه فاذا هو في لحظة يتقلب الى حواريّ الاسلام..!!
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
" والذي نفسي بيده، لخنزير كان أحبّ اليّ من عمير حين طلع علينا..
ولهو اليوم أحبّ اليّ من بعض ولدي"..!!
**

جلس عمير يفكّر بعمق في سماحة هذا الدين، وفي عظمة هذا الرسول:
ثم تذكر بلاءه يوم بدر وقتاله.
وتذكر أيامه الخوالي في مكة وهو يكيد للاسلام ويحاربه قبل هجرة الرسول وصحبه الى المدينة.
ثم هاهو ذا يجيء اليوم متوشحا سيفه ليقتل به الرسول.
كل ذلك يمحوه في لحظة من الزمان قوله:" لا اله الا الله، محمد رسول الله"..!!
أيّة سماحة، وأي صفاء، وأية ثقة بالنفس يحملها هذا الدين العظيم..!!
أهكذا في لحظة يمحو الاسلام كل خطاياه السالفة، وينسى المسلمون كل جرائره وعداواته السابقة، ويفتحون له قلوبهم، ويأخذونه بالأحضان..؟!
أهكذا والسيف الذي جاء معقودا على شرّ طوية وشرّ جريمة، لا يزال يلمع أمام أبصارهم، ينسي ذلك كله، ولا يذكر الآن الا أن عميرا باسلامه، قد أصبح احدا من المسلمين ومن أصحاب الرسول، له ما لهم.. وعليه ما عليهم..؟!!!
أهكذا وهو الذي ودّ عمر بن الخطاب منذ لحظتين أن يقتله، يصبح أحب الى عمر من ولده وبنيه..؟؟؟!!!

اذا كانت لحظة واحدة من الصدق، تلك التي أعلن فيها عمر اسلامه، تحظى من الاسلام بكل هذا التقدير والتكريم والمثوبة والاجلال، فان الاسلام اذن لهو دين عظيم..!!
**

وفي لحظات عرف عمير واجبه تجاه هذا الدين.. أن يخدمه بقدر ما حاربه، وان يدعو اليه، بقدر ما دعا ضدّه.. وأن يري الله ورسوله ما يحب الله ورسوله من صدق، وجهاد وطاعة.. وهكذا أقبل على رسول الله ذات يوم، قائلا:
" يا رسول الله: انب كنت جاهدا على اطفاء نور الله، شديد الأذى لمن كان على دين الله عز وجل، واني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة، فأدعوهم الى الله تعالى، والى رسوله، والى الاسلام، لعلّ الله يهيدهم، والا آذيتهم في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم"..

في تلك الأيام، ومنذ فارق عمير مكة متوجها الى المدينة كان صفوان بن أمية الذي اغرى عميرا بالخروج لقتل الرسول، يمشي في شوارع مكة مختالا، ويغشي مجالسها وندواتها فرحا محبورا..!
وكلما سأله قومه واخوته عن شسر فرحته ونشوته، وعظام أبيه لا تزال ساخنة في حظائر بدر، يفرك كفّيه في غرور يقول للناس:" أبشروا بوقعة يأتيكم نبأها بعد أيام تنسيكم وقعة بدر"..!
وكان يخرج الى مسارف مكة كل صباح يسأل القوافل والركبان:" ألم يحدث بالمدينةأمر".
وكانوا يجيبونه بما لا يحب ويرضى، فما منهم من أحد سمع أو رأى في المدينة حدثا ذا بال.
ولم ييأس صفوان.. بل ظلّ مثابرا على مساءلة الركبان، حتى لقي بعضهم يوما فسأله:" ألم يحدث بالمدينةأمر"..؟؟
فأجابه المسافر: بلى حدث أمر عظيم..!!
وتهللت أسارير صفوان وفاضت نفسه بكل ما في الدنيا من بهجة وفرح..
وعاد يسأل الرجل في عجلة المشتاق:" ماذا حدث اقصص عليّ".. وأجابه الرجل: لقد أسلم عمير بن وهب، وهو هناك يتفقه في الدين، ويتعلم القرآن"..!!
ودرات الأرض بصفوان.. والوقعة التي كان يبشر بها قومه، والتي كان ينتظهرا لتنسيه وقعة بدر جاءته اليوم في هذا النبأ الصاعق لتجعله حطاما..!!
**

وذات يوم بلغ المسافر داره.. وعاد عمير الى مكة شاهرا سيفه، متحفزا للقتال، ولقيه أول ما لقيه صفوان بن أمية..
وما كاد يراه حتى هم بمهاجمته، ولكن السيف المتحفز في يد عمير ردّه الى صوابه، فاكتفى بأن ألقى على سمع عمير بعض شتائمه ثم مضى لسبيله..
دخل عمير بن وهب مكة مسلما، وهو الذي فارقها من أيام مشركا، دخلها وفي روعة صورة عمر بن الخطاب يوم أسلم، ثم صاح فور اسلامه قائلا:
" والله لا أدع مكانا جلست فيه بالكفر، الا جلست فيه بالايمان".

ولكأنما اتخذ عمير من هذه الكلمات شعارا، ومن ذلك الموقف قدوة، فقد صمم على نذر حياته للدين الذي طالما حاربه.. ولقد كان في موقف يسمح له بأن ينزل الأذى بمن يريد له الأذى..
وهكذا راح يعوّض ما فاته.. ويسابق الزمن الى غايته، فيبشر بالاسلام ليلا ونهارا.. علانية واجهارا..
في قلبه ايمانه يفيض عليه أمنا، وهدى ونورا..
وعلى لسانه كلمات حق، يدعو بها الى العدل والاحسان والمعروف والخير..
وفي يمينه سيف يرهب به قطاع الطق الذين يصدّون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا.
وفي بضعة أسابيع كان الذين هدوا الى الاسلام على يد عمير يفوق عددهم كل تقدير يمكن أن يخطر ببال.
وخرج عمير بهم الى المدينة في موكب طويل مشرق.
وكانت الصحراء التي يجتازونها في سفرهم لا تكتم دهشتها وعجبها من هذا الرجل الذي مرّ من قريب حاملا سيفه، حاثّا خطاه الى المدينة ليقتل الرسول، ثم عبرها مرّة أخرى راجعا من المدينة بغير الوجه الذي ذهب به يرتل القرآن من فوق ظهر ناقته المحبورة.. ثم ها هو ذا يجتازها مرة ثالثة على رأس موكب كبير من المؤمنين يملؤون رحابها تهليلا وتكبيرا..
**

أجل لنه لنبأ عظيم.. نبأ شيطان قريش الذي أحالته هداية الله الى حواريّ باسل من حوارييّ الاسلام، والذي ظلّ زاقفا الى جوار رسول الله في الغزوات والمشاهد، وظلّ ولاؤه لدين الله راسخا بعد رحيل الرسول عن الدنيا.
وفي يوم فتح مكة لم ينس عمير صاحبه وقريبه صفوان بن أمية فراح اليه يناشده الاسلام ويدعوه اليه بعد أن لم يبق شك في صدق الرسول، وصدق الرسالة..
بيد أن صفوان كان قد شدّ رحاله صوب جدّة ليبحر منها الى اليمن..
واشتدّ اشفاق عمير على صفوان، وصمم على أن يستردّه من يد الشيطان بكل وسيلة.
وذهب مسرعا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:
" يا نبيّ الله ان صفوان بن أميّة سيّد قومه، وقد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فأمّنه صلى الله عليك،
فقال النبي: هو آمن.
قال رسول الله فأعطني آية يعرف بها أمانك، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم عمامته التي دخل فيها مكة"..

ولندع عروة بن الزبير يكمل لنا الحديث:
" فخرج بها عمير حتى أدركه وهو يريد أن يركب البحر فقال: يا صفوان، فداك أبي وأمي.. الله الله في نفسك أن تهلكها.. هذا أمان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جئتك به..
قال له صفوان: ويحك، اغرب عني فلا تكلمني. قال: أي صفوان..فداك أبي وأمي، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الناس، وأبرّ الناس ، وأحلم الناس، وخير الانس.. عزّه عزّك، وشرفه شرفك..
قال: اني أخاف على نفسي..
قال: هوأحلم من ذاك وأكرم..
فرجع معه حتى وقف به على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فقال صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم: ان هذا يزعم أنك أمّنتني..
قال السول صلى الله عليه وسلم: صدق..
قال صفوان: فاجعلني فيه بالخيار شهرين..
قال صلى الله عليه وسلم: أنت بالخيار أربعة أشهر".
وفيما بعد أسلم صفوان.
وسعد عمير باسلامه أيّما سعادة..
وواصل ابن وهب مسيرته المباركة الى الله، متبعا أثر الرسول العظيم الذي هدى الله به الناس من الضلالة وأخرجهم من الظلمات الى النور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 6:30 pm

أبو عبيدة بن الجرّاح - أمين هذه الأمة

من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

" ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟
من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟
من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟
من هذا الطويل القامة النحيف الجسم، المعروق الوجه، الخفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين..؟؟
أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:
" لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله، وأمين رسوله"..؟؟
انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..
أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد، وبقيّة المشاهد جميعها، ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة.

**

عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..

ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..
ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه،وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام:
" أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح".
**

ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..
ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..

وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق..
وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!
وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:
" كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم"..؟
ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية..
وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:
" لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..
فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..
ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!

وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..
فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..
لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!
**

لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...
ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله:
" لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين.. حق أمين"..!!
وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
" ما أحببت الامارة قط، حبّي اياها يومئذ، رجاء أن أكون صاحبها، فرحت الى الظهر مهجّرا، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، سلم، ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، فجعلت أتطاول له ليراني..
فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح، فدعاه، فقال: أخرج معهم، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!
ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..
انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية، وهذا التقدير الكريم..
ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة، وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..
وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..

ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت، جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..
وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..

لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..
وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!
ويسأله خالد:
" يرحمك الله يا أبا عبيدة.ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟
فيجيبه أمين الأمة:
" اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة".!!!
**

ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..
فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..
وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..
فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأ/انته..
" يا أيها الناس..
اني مسلم من قريش..
وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ
حيّاك الله يا أبا عبيدة..
وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..
مسلم من قريش، لا أقل ولا أكثر.
الدين: الاسلام..
والقبيلة: قريش.
هذه لا غير هويته..
أما هو كأمير الأمراء، وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا، وأشدّها بأسا، وأعظمها فوزا..
أما هو كحاكم لبلاد الشام،أمره مطاع ومشيئته نافذة..
كل ذلك ومثله معه، لا ينال من انتباهه لفتة، وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!
**

ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام، ويسأل مستقبليه:
أين أخي..؟
فيقولون من..؟
فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.
ويأتي أبو عبيدة، فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره، فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه، وترسه ورحله..
ويسأله عمر وهو يبتسم:
" ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟
فيجيبه أبو عبيدة:
" يا أمير المؤمنين، هذا يبلّغني المقيل"..!!
**

وذات يوم، وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع، جاءه الناعي، أن قد مات أبو عبيدة..
وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..
وغاض الدمع، ففتح عينيه في استسلام..
ورحّم على صاحبه، واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..
وأعاد مقالته عنه:
" لو كنت متمنيّا، ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..
**

ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان..
زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل، كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة..
وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..
فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..
ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه..!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
لح ـن الح ـياة
عضو مشارك
عضو مشارك
لح ـن الح ـياة


الجنس : انثى
العمر : 33
المساهمات : 120
نقاط : 288
الميلاد : 24/06/1990
التسجيل : 09/05/2011
السمعة : 0

رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Empty
مُساهمةموضوع: رد: رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور    رجال حول الرسول  صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور  Icon_minitimeالثلاثاء مايو 10, 2011 6:34 pm

عمّار بن ياسر - رجل من الجنة ..!!

لو كان هناك أناس يولدون في الجنة، ثم يشيبون في رحابها ويكبرون..

ثم يجاء بهم الى الرض ليوكون زينة لها، ونورا، لكان عمّار، وأمه سميّة، وأبوه ياسر من هؤلاء..!!
ولكن لماذا نقول: لو.. لماذا مفترض هذا الاتراض، وقد كان آل ياسر فعلا من أهل الجنة..؟؟
وما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مواسيا لهم فحسب حين قال:
" صبرا آل ياسر ان موعدكم الجنة"..
بل كان يقرر حقيقة يعرفها ويؤكد واقعا يبصره ويراه..
خرج ياسر والد عمّار، من بلده في اليمن يطلب أخا له، ويبحث عنه..

وفي مكة طاب له المقام، فاستوطنها محالفا أبا حذيفة بن المغيرة..
وزوّجه أبو حذيفة احدى امائه سميّة بنت خياط..
ومن هذا الزواج المبارك رزق الله الأبوين عمارا..
وكان اسلامهم مبكرا.. شأن الأبرار الذين هداهم الله..
وشأن الأبرار المبكّرين أيضا، أخذوا نصيبهم الأوفى من عذاب قريش وأهوالها..!!
ولقد كانت قريش تتربّص بالمؤمنين الدوائر..
فان كانوا ممن لهم في قومهم شرف ومنعة، تولوهم بالوعيد والتهديد، ويلقى أبو جهل المؤمن منهم فيقول له:" تركت دين آبائك وهم خير منك.. لنسفّهنّ حلمك، ولنضعنّ شرفك، ولنكسدنّ تجارتك، ولنهلكنّ مالك" ثم يشنون عليه حرب عصبية حامية.
وان كان المؤمن من ضعفاء مكة وفقرائها، أو عبيدها، أصلتهم سعيرا.
ولقد كان آل ياسر من هذا الفريق..
ووكل أمر تعذيبهم الى بني مخزوم، يخرجون بهم جميعا.. ياسر، سمية وعمار كل يوم الى رمضاء مكة الملتهبة، ويصبّون عليهم جحيم العذاب ألوانا وفنونا!!

ولقد كان نصيب سمية من ذلك العذاب فادحا رهيبا. ولن نفيض في الحديث عنها الآن.. فلنا ان شاء الله مع جلال تضحيتها، وعظمة ثباتها لقاء نتحدث عنها وعن نظيراتها وأخواتها في تلك الأيام الخالدات..
وليكن حسبنا الآن أن نذكر في غير كبالغة أن سمية الشهيدة وقفت يوم ذاك موقفا يمنح البشرية كلها من أول الى آخرها شرفا لا ينفد، وكرامة لا ينصل بهاؤها..!
موقفا جعل منها أمّا عظيمة للمؤمنين في كل العصور.. وللشرفاء في كل الأزمان..!!
**

كان الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج الى حيث علم أن آل ياسر يعذبون..
ولم يكن ىنذاك يملك من أسباب المقاومة ودفع الأذى شيئا..
وكانت تلك مشيئة الله..
فالدين الجديد، ملة ابراهيم حنيفا، الدين الذي يرفع محمد لواءه ليس حركة اصلاح عارضة عابرة.. وانما هو نهج حياة للبشرية المؤمنة.. ولا بد للبشربة المؤمنة هذه أن ترث مع الدين تاريخه بكل تاريخه بكا بطولاته، وتضحياته ومخاطراته...
ان هذه التضحيات النبيلة الهائلة، هي الخرسانة التي تهب الدبن والعقيدة ثباتا لا يزول، وخلودا لا يبلى..!!!

انها العبير يملأ أفئدة المؤمنين ولاء، وغبطة وحبورا.
وانها المنار الذي يهدي الأجيال الوافدة الى حقيقة الدين، وصدقه وعظمته..
وهكذا لم يكن هناك بد من أن يكون للاسلام تضحياته وضحاياه، ولقد أضاء القرآن الكريم هذا المعنى للمسلمين في أكثر من آية...
فهو يقول:
(أحسب الناس أن يتركوا، أن يقولوا آمنّا، وهم لا يفتنون)؟!

(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، ولمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم، ويعلم الصابرين)؟

(ولقد فتنّا الذين من قبلهم، فليعلمنّ الله الذين صدقوا، وليعلمنّ الكاذبين).

(أم حسبتم أن تتركوا، ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم..)

(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب)..

(وما أصابكم يوم التقى الجمعان، فباذن الله، وليعلم المؤمنين).

أجل هكذا علم القرآن حملته وأبناءه، أن التضحية جوهر الايمان، وأن مقاومة التحديّات الغاشمة الظالمة بالثبات وبالصبر وبالاصرار.. انما تشكّل أبهى فضائل الايمان وأروعها..
ومن ثمّ فان دين الله هذا وهو يضع قواعده، ويرسي دعائمه، ويعطي مثله، لا بد له أن يدعم وجوده بالتضحية، ويزكّي نفسه بالفداء، مختارا لهذه المهمة الجليلة نفرا من أبنائه وأوليائه وأبراره يكنون قدوة سامقة ومثلا عاليا للمؤمنين القادمين.
ولقد كانت سميّة.. وكان ياسر.. وكان عمّار من هذه الثلة المباركة العظيمة التي اهتارتها مقادير الاسلام لتصوغ من تضحياتها وثباتها واصراراها وثيقة عظمته وخلوده..
**

قلنا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج كل يوم الى أسرة ياسر، محيّيا صمودها، وبطولتها.. وكان قلبه الكبير يذوبرحمة وحنانا لمشهدهم وهم يتلقون العذاب ما لا طاقة لهم به.
وذات يوم وهو يعودهم ناداه عمّار:
" يا رسول الله.. لقد بلغ منا العذاب كل مبلغ"..
فنا داه الرسول: صبرا أبا اليقظان..
صبرا آل ياسر..
فان موعدكم الجنة"..
ولقد وصف أصاب عمّار العذاب الذي نزل به في أحاديث كثيرة.
فيقول عمرو بن الحكم:
" كان عمّار يعذب حتى لا يدري ما يقول".
ويقول عمرو بن ميمون:
" أحرق المشركون عمّار بن ياسر بالنار، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به، ويمر يده على رأسه ويقول: يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار، كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم"..
على أن ذلك لهول كله لم يكن ليفدح روح عمار، وان فدح ظهره ودغدغ قواه..
ولم يشعر عمار بالهلاك حقا، الا في ذلك اليوم الذي استنجد فيه جلادوه بكل عبقريتهم في الجريمة والبغي.. فمن الكي بالنار، الى صلبه على الرمضاء المستعرة تحت الحجارة الملتهبة.. الى غطّه في الماء حتى تختنق أنفسه، وتتسلخ قروحه وجروحه..
في ذلك اليوم اذ فقد وعيه تحت وطأة هذا العول فقالوا له: أذكر آلهتنا بخير، وأخذوا يقولون له، وهو يردد وراءهم القول في غير شعور.
في لك اليوم، وبعد أن أفاق قليلا من غيبوبة تعذيبه، تذكّر ما قاله فطار صوابه، وتجسمت هذه الهفوة أما نفسه حتى رآها خطيئة لا مغفرة لها ولا كفارة.. وفي لحظات معدودات، أوقع به الشعور بالاثم من العذاب ما أضحى عذاب المشركين تجاهه بلسما ونعيما..!!

ولو ترك عمّار لمشاعره تلك بضع ساعات لقضت عليه لا محالة..
لقد كان يحتمل الهول المنصّب على جسده، لأن روحه هناك شامخة.. أما الآن وهو يظن أن الهزيمة أدركت روحه فقد أشرفت به همومه وجزعه على الموت والهلاك..
لكن الله العليّ القدير أراد للمشهد المثير أن يبلغ جلال ختامه..
وبسط الوحي يمينه المباركة مصافحا بها عمّارا، وهاتفا به: انهض أيها البطا.. لا تثريب عليك ولا حرج..
ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحبه فألفاه يبكي، فجعل يمسح دموعه بيده، ويقول له:
" أخذك الكفار، فغطوك في الماء، فقلت كذا.. وكذا..؟؟"
أجاب عمّار وهو ينتحب: نعم يا رسول الله...
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم:" ان عادوا، فقل لهم مثل قولك هذا"..!!
ثم تلا عليه الآية الكريمة:
( الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)..
واستردّ عمّار سكينة نفسه، ولم يعد يجد للعذاب المنقض على جسده ألما، ولم يعد يلقي له وبالا..
لقد ربح روحه، وربح ايمانه.. ولقد ضمن القرآن له هذه الصفقة المباركة، فليكن بعدئذ ما يكون..!!
وصمد عمّار حتى حل الاعياء بجلاديه، وارتدّوا أمام اصراره صاغرين..!!
**

استقرّ المسلمون بالمدينة بعد هجرة رسولهم اليها، وأخذ المجتمع الاسلامي هناك يتشكّل سريعا، ويستكمل نفسه..
ووسط هذه الجماعة المسلمة المؤمنة،أخذ عمار مكانه عليّا..!!
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه حبا حمّا، ويباهي أصحابه بايمانه وهديه..
يقول عنه صلى الله عليه وسلم/
: ان عمّارا ملئ ايمانا الى مشاشه".

وحين وقع سوء تفاهم بين عمار وخالد بن الوليد، قال رسول الله:" من عادى عمارا، عاداه الله، ومن أبغض عمارا أبغضه الله"
ولم يكن أمام خالد بن الوليد بطل الاسلام الا أن يسارع الى عمار معتذرا اليه، وطامعا في صفحه الجميل..!!
وحين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يبنون المسجد بالمدينة اثر نزولهم بها، ارتجز الامام علي كرّم الله وجهه أنشودة راح يرددها ويرددها المسلمون معه، فيقولون:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا

وكان عمار يعمل من ناحية المسجد فأخذ يردد الأنشودة ويرفع بها صوته.. وظن أحد أصحابه أن عمارا يعرض به، فغاضبه ببعض القول فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
" ما لهم ولعمّار..؟
يدعوهم الى الجنة، ويدعونه الى النار..
ان عمّارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي"...

واذا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما الى هذا الحد، فلا بد أن يكون ايمانه، وبلاؤه، وولاؤه، وعظمة نفسه، واستقامة ضميره ونهجه.. قد بلغت المدى، وانتهت الى ذروة الكمال الميسور..!!
وكذلكم كان عمار..
لقد كال الله له نعمته وهداه بالمكيال الأوفى، وبلف في درجات الهدى واليقين ما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يزكّي ايمانه، ويرفعه بين أصحابه قدوة ومثلا فيقول:
" اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر... واهتدوا بهدي عمّار"..
ولقد وصفه الرواة فقالوا:
" كان طوّالا، أشهل، رحب ما بين المنكبين.. من أطول الناس سكوتا، وأقلهم كلاما"..
فكيف سارت حياة هذا العملاق، الصامت الأشهل، العريض الصدر، الذي يحمل جسده آثار تعذيبه المروّع، كما يحمل في نفس الوقت وثيقة صموده الهائل، والمذهل وعظمته الخارقة..؟!
كيف سارت حياة هذا الحواري المخلص، والمؤمن الصادق، والفدائي الباهر..؟؟
لقد شهد مع معلّمه ورسوله جميع المشاهد.. بدرا، وأحدا، والخندق وتبوك.. ويقيّتها جميعل.
ولما ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى، واصل العملاق زحفه..
ففي لقاء المسلمين مع الفرس، ومع الروم، ومن قبل ذلك في لقائهم مع جيوش الردّة الجرّراة كان عمّار هناكفي الصفوف الأولى دوما.. جنديا باسلا أمينا، لا تنبو لسيفه ضربة.. ومؤمنا ورعا جليلا، لا تأخذه عن الله رغبة..
وحين كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يختار ولاة المسلمين في دقة وتحفّظ من يخ\تار مصيره، كانت عيناه تقعان دوما في ثقة أكيدة على عمّار بن ياسر"..
وهكذا سارع اليه وولاه الكوفة، وجعل ابن مسعود معه على بيت المال..
وكتب الى أهلها كتابا يبشرهم فيه بواليهم الجديد، فقال:
" اني بعثت اليكم عمّار بن ياسر أميرا.. وابن مسعود معلما ووزيرا..
وانهما من النجباء، من أصحاب محمد، ومن أهل بدر"..

ولقد سار عمّار في ولايته سيرا شق على الطامعين في الدنيا تحمّله حتى تألبوا عليه أو كادوا..
لقد زادته الولاية تواضعا وورعا وزهدا..
يقول ابن أبي الهذيل، وهو من معاصريه في الكوفة:
" رأيت عمّار بن ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها، ثم يربطها بحبل ويحملها فوق ظهره، ويمضي بها الى داره"..!!

ويقول له واحد من العامّة وهو امير الكوفة:" يا أجدع الأذن يعيّره بأذنه التي قطعت بسيوف المرتدين في حرب اليمامة.. فلا يزيد الأمير الذي بيده السلطة على أن يقول لشاتمه:
" خير أذنيّ سببت.. لقد أصيبت في سبيل الله"..!!
أجل لقد أصيب في سبيل الله في يوم اليمامة، وكان يوما من أيام عمّار المجيدة.. اذا انطلق العملاق في استبسال عاصف يحصد في جيش مسيلمة الكذاب، ويهدي اليه المنايا والدمار..
واذا يرى في المسلمين فتورا يرسل بين صفوفهم صياحه المزلزل، فيندفعون كالسهام المقذوفة.
يقول عبدالله بن عمر رضي الله عنهما:
" رايت عمّار بن ياسر يوم اليمامة على صخرة، وقد أشرف يصيح: يا معشر المسلمين.. أمن الجنة تفرّون..؟ أنا عمّار بن ياسر، هلموا اليّ.. فنظرت اليه، فاذا أذنه مقطوعة تتأرجح، وهو يقاتل أشد القتال"..!!!

ألا من كان في شك من عظمة محمد الرسول الصادق، والمعلم الكامل، فليقف أمام هذه النماذج من أتباعه وأصحابه، وليسأل نفسه: هل يقدر على انجاب هذا الطراز الرفيع سوى رسول كريم، ومعلم عظيم؟؟

اذا خاضوا في سبيل الله قتالا اندفعوا اندفاع من يبحث عن المنيّة، لا عن النصر..!!
واذا كانوا خلفاء وحكّاما، ذهب الخليفة يحلب شياه الأيامى، ويعجن خبز اليتامى.. كما فعل أبو بكر وعمر..!!
واذا كانوا ولاة حملوا طعامم على ظهورهم مربوطا بحبل.. كما فعل عمّار.. أو تنازلوا عن راتبهم وجلسوا يصنعون من الخوص المجدول أوعية ومكاتل، كما صنع سلمان..!!
ألا فلنحن الجباه تحيّة واجلالا للدين الذي أنجبهم، وللرسول الذي ربّاهم.. وقبل الدين والرسول، الله العليّ الكبير الذي اجتباهم لهذا كله..
وهداهم لهذا كله.. وجعلهم روّادا لخير أمة أخرجت للناس..!!
**

كان الحذيفة بن اليمان، الخبير بلغة السرائر والقلوب يتهيأ للقاء الله، ويعالج سكرات الموت حين سأله أصحابه الحافون حوله قائلين له" بمن تأمرنا، اذا اختلف الناس"..؟
فأجابهم حذيفة، وهو يلقي بآخر كلماته:
" عليكم بابن سميّة.. فانه لن يفارق الحق حتى يمةت"..
أجل ان عمارا ليدور مع الحق حيث يدور.. والآن نحن نقفو آثاره المباركة، ونتتبع معالم حياته العظيمة، تعلوْا نقترب من مشهد عظيم..
ولكن قبل أن نواجه هذا المشهد في روعته وجلاله، في صولته وكماله، في تفانيه واصراره، في تفوقه واقتداره، تعالْوا نبصر مشهد مشهدا يسبق هذا المشهد، ويتنبأ به، ويهيئ له...

كان ذلك اثر استقرار المسلمين في المدينة، وقد نهض الرسول الأمين وحوله الصحابة الأبرار، شعثا لربهم وغبرا، بنون بيته، ويقيمون مسجده.. قد امتلأت أفئدتهم المؤمنة غبطة، وتألقت بشرا، وابتهلت حمدا لربها وشكرا..
الجميع يعملون في خبور وأمل.. يحملون الحجارة، أو يعجنون الملاط.. أو يقيمون البناء..
فوج هنا وفوج هناك..
والأفق السعيد يردد تغريدهم الذي يرفعون به أصواتهم المحبورة:
لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل
هكذا يغنون وينشدون..
ثم تتعالى أصواتهم الصادحة بتغريدة أخرى:
اللهم ان العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة
وتغريدة ثالثة:
لا يستوب من يعمّر مسجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى الغبار عنه حائدا

انها خلايا لله تعمل.. انهم جنوده، يحملون لواءه، ويرفعون بناءه..
ورسوله الطيّب الأمين معهم، يحمل من الحجارة أعتاها، ويمارس من العمل أشقه.. وأصواتهم المغرّدة تحكي غبطة أنفسهم الراضية المخبتة..
والسماء من فوقهم تغبط الأرض التي تحملهم فوق ظهرها.. والحياة المتهللة تشهد أبهى أعيادها..!!
وعمار بن ياسر هناك وسط المهرجان الحافل يحمل الحجارة الثقيلة من منحتها الى مستقرّها...

ويبصره الرحمة المهداة محمد رسول الله، فيأخذه اليه حنان عظيم، ويقترب منه وينفض بيده البارّة الغبار الذي كسى رأسه، ويتأمّل وجهه الوديع المؤمن بنظرات ملؤها نور الله، ثم يقول على ملأ من أصحابه جميعا:
" ويح ابن سميّة..!! تقتله الفئة الباغية"...

وتتكرر النبوءة مرّة أخرى حين يسقط جدار كان يعمل تحته، فيظن بعض اخوانه أنه قد مات، فيذهب ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفزّع الأصحاب من وقع النبأ.. لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة:
" ما مات عمّار تقتله الفئة الباغية"..
فمن تكون هذه الفئة يا ترى..؟؟
ومتى..؟ وأي..؟
لقد أصغى عمّار للنبوءة اصغاء من يعرف صدق البصيرة التي يحملها رسوله العظيم..
ولكنه لم يروّع.. فهو منذ أسلم، وهو مرشّح للموت والشهادة في كل لحظة من ليل أو نهار...
ومضت الأيام.. والأعوام..
ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى.. ثم لحق به الى رضوان الله أبو بكر.. ثم لحق بهما الى رضوان الله عمر..
وولي الخلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه..
وكانت المؤمرات ضدّ الاسلام تعمل عملها االمستميت، وتحاول أن تربح بالغدر واثارة الفتن ما خسرته في الحرب..
وكان مقتل عمر أول نجاح أحرزته هذه المؤامرات التي أخذت تهبّ على المدينة كريح السموم من تلك البلاد التي دمّر الاسلام ملكها وعروشها..
وأغراها استشهاد عمر على مواصلة مساعيها، فألّبت الفتن وأيقظتها في معظم بلاد الاسلام..
ولعل عثمان رضي الله عنه، لم يعط الأمور ما تستحقه من الاهتمام والحذر، فوقعت الواقعة واستشهد عثمان رضي الله عنه، وانفتحت على المسلمين أبواب الفتنة.. وقام معاوية ينازع الخليفة الجديد عليّا كرّم الله وجهه حقه في الأمر، وفي الخلافة...

وتعددت اتجاهات الصحابة.. فمنهم من نفض يديه من الخلاف وأوى الى بيتهخ، جاعلا شعاره كلمة ابن عمر:
" من قال حيّ على الصلاة أجبته...
ومن قال حيّ على الفلاح أجبته..
ومن قال حيّ على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله، قلات: لا؟..
ومنهم من انحاز الى معاوية..
ومنهم من وقف الى جوار عليّ صاحب البيعة، وخليفة المسلمين..
ترى أين يقف اليوم عمّار؟؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" واهتدوا بهدي عمّار"..؟
أين يقف الرجل الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من عادى عمّارا عاداه الله"..؟
والذي كان اذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته يقترب من منزله قال:
" مرحبا بالطيّب المقدام، ائذنوا له"..!!

لقد وقف الى جوار عليّ ابن أبي طالب، لا متحيّزا ولا متعصبا، بل مذعنا للحق، وحافظا للعهد..
فعليّ خليفة المسلمين، وصاحب البيعة بالامامة.. ولقد أخذ الخلافة وهو لها أهل وبها جدير..
وعليّ قبل هذا وبعد هذا، صاحب المزايا التي جعلت منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمنزلة هارون من موسى..
ان عمارا الذي يدور مع الحق حيث دار، ليهتدي بنور بصيرته واخلاصه الى صاحب الحق الأوحد في النزاع.. ولم يكن صاحب الحق يومئذ في يقينه سوى عليّ، فأخذ مكانه الى جواره..
وفرح علي رضي الله عنه بنصرته فرحا لعله لم يفرح يمئذ مثله وازداد ايمانا بأنه على الحق ما دام رجل الحق العظيم عمّار قد أقبل عليه وسار معه..
وجاء يوم صفين الرهيب.
وخرج الامام علي يواجه العمل الخطير الذي اعتبره تمرّدا يحمل هو مسؤولية قمعه.
وخرج معه عمار..
كان عمار قد بلغ من العمر يومئذ ثلاثة وتسعين..
ثلاث وتسعون عاما ويخرج للقتال..؟
أجل ما دام يتعقد أن القتال مسؤليته وواجبه.. ولقد قاتل أشدّ وأروع مما يقاتل أبناء الثلاثين...!!
كان الرجل الدائم الصمت، القليل الكلام، لا يكاد يحرّك شفتيه حين يحرّكهما الا بهذه الضراعة:
" عائذ بالله من فتنة...
عائذ بالله من فتنة..".
وبعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ظلت هذه الكلمات ابتهاله الدائم..
وكلما كانت الأيام تمر، كان هو يكثر من لهجه وتعوّذه.. كأنما كان قلبه الصافي يحسّ الخطر الداهم كلما اقتربت أيامه..
وحين وقع الخطر ونشبت الفتنة، كان ابن سميّة. يعرف مكانه فوقف يوم صفين حاملا سيفه وهو ابن الثالثة والتسعين كما قلنا ليناصر به حقا من يؤمن بوجوب مناصرته..
ولقد أعلن وجهة نظره في هذا القتال قائلا:

" ايها الناس:
سيروا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يثأرون لعثمان، ووالله ما قصدهم الأخذ بثأره، ولكنهم ذاقوا الدنيا، واستمرءوها، وعلموا أن الحق يحول بينهم وبين ما يتمرّغون فيه من شهواتهم ودنياهم..
وما كان لهؤلاء سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة المسلمين لهم، ولا الولاية عليهم، ولا عرفت قلوبهم من خشية الله ما يحملهم على اتباع الحق...
وانهم ليخادعون الناس بزعمهم أنهم يثأرون لدم عثمان.. وما يريدون الا أن يكونوا جبابرة وملوكا؟...
ثم أخذ الراية بيده، ورفعها فوق الرؤوس عالية خافقة، وصاح في الناس قائلا:
" والذي نفسي بيده.. لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهأنذا أقاتل بها اليوم..
والذي نفسي بيده. لو هزمونا حتى يبلغوا سعفات هجر، لعلمت أننا على الحق، وأنهم على الباطل"..
ولقد تبع الناس عمارا، وآمنوا بصدق كلماته..
يقول أبو عبدالرحمن السلمي:
" شهدنا مع عليّ رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار ابن ياسر رضي اله عنه لا يأخذ في ناحية من نواحيها، ولا واد من أوديتها، الا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه كأنه علم لهم"..!!
كان عمّار وهو يجول في المعركة ويصول، يؤمن أنه واحد من شهدائها..
وقد كانت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأتلق أمام عينيه بحروف كبرة:
" تقتل عمّار الفئة الباغية"..
من أجل هذا كان صوته يجلجل في أفق المعركة بهذه التغريدة:
"اليوم القى الأحبة محمدا وصحبه"..!!

ثم يندفع كقذيفة عاتية صوب مكان معاوية ومن حوله الأمويين ويرسل صياحا عاليا مدمدما:
لقد ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقليه
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق الى سبيله
وهو يعني بهذا أن أصحاب الرسول السابقين، وعمارا منهم قاتلوا الأمويين بالأمس وعلى رأسهم أبو سفيان الذي كان يحمل لواء الشرك، ويقود جيوش المشركين..
قاتلوهم بالأمس، وكان القرآن الكريم يأمرهم صراحة بقتالهم لأنهم مشركون..
أما اليوم، وان يكونوا قد أسلموا، وان يكن القرآن الكريم لا يأمرهم صراحة بقتالهم، الا أن اجتهاد عمار رضي الله عنه في بحثه عن الحق، وفهمه لغايات القرآن ومراميه يقنعانه بقتالهم حتى يعود الحق المغتصب الى ذويه، وحتى تنصفئ الى البد نار التمرّد والفتنة..
ويعني كذلك، أنهم بالأمس قاتلوا الأمويين لكفرهم بالدين والقرآن..

واليوم يقاتلون الأمويين لانحرافهم بالدين، وزيغهم عن القرآن الكريم واساءتهم تأويله وتفسيره، ومحاولتهم تطويع آياته ومراميه لأغراضهم وأطماعهم..!!

كان ابن الثالثة والتسعين، يخوض آخر معارك حياته المستبسلة الشامخة.. كان يلقن الحياة قبل أن يرحل عنها آخر دروسه في الثبات على الحق، ويترك لها آخر مواقفه العظيمة، الشريفة المعلمة..
ولقد حاول رجال معاوية أن يتجنبوا عمّار ما استطاعوا، حتى لا تقتله سيفهم فيتبيّن للناس أنهم الفئة الباغية..
بيد أن شجاعة عمار الذي كان يقتل وكأنه جيش واحد، أفقدتهم صوابهم، فأخذ بعض جنود معاوية يتحيّنون الفرصة لاصابته، حتى اذا تمكّنوا منه أصابوه...
**

كان جيش معاويبة ينتظم من كثيرين من المسلمين الجدد.. الذين أسلموا على قرع طبول الفتح الاسلامي في البلاد الكثيرة التي حررها الاسلام من سيطرة الروم والفرس.. وكان أكثر هؤلاء وقود الحرب التي سببها تمرّد معاوية ونكوصه على بيعة علي.. الخليفة، والامام، كانوا وقودها وزيتها الذي يزيدها اشتعالا..
وهذا الخلاف على خطورته، كان يمكن أن ينتهي بسلام لو ظلت الأمور بأيدي المسلمين الأوائل.. ولكنه لم يكد يتخذ أشكاله الحادة حتى تناولته أيد كثيرة لا يهمها مصير الاسلام، وذهبت تذكي النار وتزيدها ضراما..
شاع في الغداة خبر مقتل عمار وذهب المسلمون يتناقل بعضهم عن بعض نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سمعها أصحابه جميعا ذات يوم بعيد، وهم يبنون المسجد بالمدينة..
" ويح ابن سمية، تقتله الفئة الباعغية".
وعرف الناس الآن من تكون الفئة الباغية.. انها الفئة التي قتلت عمّارا.. وما قتله الا فئة معاوية..

وازداد أصحاب عليّ بهذا ايمانا..
أما فريق معاوية، فقد بدأ الشك يغز قلوبهم، وتهيأ بعضهم للتمرد، والانضمام الى عليّ..
ولم يكد معاوية يسمع بما حدث. حتى خرج يذيع في الناس أن هذه النبوءة حق ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم تنبأ حقا بأن عمّارا ستقتله الفئة الباغية.. ولكن من الذي قتل عمّارا...؟ ثم صاح في الناس الذين معه قائلا:
" انما قتله الذين خرجوا به من داره، وجاؤا به الى القتال"..
وانخدع بعض الذين في قلوبهم هوى بهذا التأويل المتهالك، واستأنفت المعركة سيرها الى ميقاتها المعلوم...
**

أمّا عمّار، فقد حمله الامام علي فوق صدره الى حيث صلى عليه والمسلمون معه.. ثم دفنه في ثيابه..
أجل في ثيابه المضمّخة بدمه الزكي الطهور.. فما في كل حرير الدنيا وديباجها ما يصلح أن يكون كفنا لشهيد جليل، وقدّيس عظيم من طراز عمّار...

ووقف المسلمون على قبره يعجبون..
منذ ساعات كان عمّار يغرّد بينهم فوق أرض المعركة.. تملؤ نفسه غبطة الغريب المضنى يزف الى وطنه، وهو يصيح:
" اليوم ألقى الأحبة، محمدا وصحبة"..!!
أكان معهم اليوم على موعد يعرفه، وميقات ينتظره...؟؟!!
وأقبل بعض الأصحاب على بعضهم يتساءلون...
قال أحدهم لصاحبه: أتذكر أصيل ذلك اليوم بالمدينةونحن جالسون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وفجأة تهلل وجهه وقال:
" اشتاقت الجنة لعمّار"..؟؟
قال له صاحبه نعم، ولقد ذكر يومها آخرين منهم علي وسلمان وبلال..
اذن فالجنة كانت مشتاقة لعمّار..
واذن، فقد طال شوقها اليه، وهو يستمهلها حتى يؤدي كل تبعاته، وينجز آخر واجباته..
ولقد أدّاها في ذمّة، وأنجزها في غبطة..
أفما آن له أن يلبي نداء الشوق الذي يهتف به من رحاب الجنان..؟؟
بلى آن له أن يبلي النداء.. فما جزاء الاحسان الا الاحسان.. وهكذا ألقى رمحه ومضى..

وحين كان تراب قبره يسوّى بيد أصحابه فوق جثمانه، كانت روحه تعانق مصيرها السعيد هناك.. في جنات الخلق، التي طال شوقها لعمّار...!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم كحلقات من نور
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 2انتقل الى الصفحة : 1, 2  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
»  مواقف تبسم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ..يا حبيبي يا رسول الله
» ابتسامة الرسول صلى الله عليه وسلم
» قصة صغيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم
» مزاح الرسول صلى الله عليه وسلم
» قصه الرسول صلى الله عليه وسلم والنخله

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: ۩۩ @ القـســم الأسلامــي @ ۩۩ :: ۩۩ @ القــصص الأسلاميــة @ ۩۩-
انتقل الى: